أوركسترا النوستالجيا
Ali Bin Towar Network
تجربة شيقة وممتعة.

في كل يوم من أيام رحلتي في تركيا، كنت أكتشف خبايا وأسرارًا جديدة لا تنتهي، إنها كنوز غنية تمتزج فيها أصالة وعراقة الماضي بحداثة وعولمة الحاضر؛ لتلقي بظلالها على مستقبل مشرف ينتظر التجربة التركية الرائدة.

عاصمة عبد الحميد، إنتاج تاريخي ضخم، يحكي وبطريقة شيقة قصة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، آخر السلاطين العثمانيين الفعليين. حكم بين (1876 – 1909)، وحاول أن يصلح ما بقي من الدولة العثمانية، وأن يتصدى للمؤامرات الداخلية والخارجية التي كانت تحاك ضدها. تظافرت العديد من المقومات المهمة لنجاح هذا العمل الفني الإبداعي، والذي سيبقى خالدًا في ذاكرة الأجيال.

كانت فرصةً ذهبية أن أحضر في قرية التصوير، مكان ضخم متكامل يحتوي على كل المعدات التي يحتاجها طاقم المسلسل.. ملابس تمت خياطتها بطريقة متقنة لتحاكي ملابس بدايات القرن العشرين، قسمت في دواليب كبيرة، ووضعت عليها ملصقات كتب عليها، زوجات عبد الحميد، ملابس الحراس، ملابس السلطان.

بعد أن شبعت من التأمل في الديكور وال الاكسسورات والملابس المستخدمة في مسلسل السلطان عبد الحميد الثاني، كان عليَّ ألا أفوت فرصة حوار نجوم تركيا المشاركين في هذا العمل الفني الضخم، كانت تجول في خاطري أسئلة كثيرة وأظهرت حماسة منقطعة النظير لمعرفة خبايا وأسرار المسلسل.

بدأت مع السلطان نفسه، الممثل التركي بولنت أينال، كنت مغتبطًا أثناء الحديث مع نجم كبير يقدم دورًا محوريًا في المسلسل، شخصية لن تنساها تركيا والعالم العربي بل والعالم أجمع. تقديم شخصية تاريخية وازنة بهذا القدر العظيم ليست مهمة سهلة، هكذا بدأ بولنت حديثه، فحسب ما باح لي به، كان يعاني كثيرًا من التوتر في الحلقات الأولى؛ لأن تمثيل هذا الدور التاريخي هو تشريف وتكليف في الأن نفسه. لكن فريق العمل الجبار والمتكامل قدَّم له الدعم الكامل، واعتاد على الدور وأصبح يتحكم فيه شيئًا فشيئًا.

من السلطان إلى عدو السلطان، انتقلت لمحاورة الممثل التركي علي نوري ترك أوغلو، الشاب الذي يؤدي دورًا مهمًا في مسلسل عاصمة عبد الحميد، يمثل على شخصية تاريخية مهمة في التاريخ العثماني بل والعالمي، هي إيمانويل كاراسو، أحد أكبر أعداء السلطان عبد الحميد الثاني، وأحد مؤسسي وداعمي الحركة الصهيونية، التي كانت تسعى لإقامة وطن قومي لليهود بعد القضاء على الدولة العثمانية. 

دار بيني وبين النجم الطموح حوار حول ردة فعل الشارع التركي، والشباب خصوصًا إزاء هذا المسلسل. كنت أعرف أن شخصية السلطان عبد الحميد الثاني مشوَّهة إلى حد ما داخل المجتمع التركي، وهذا له أسبابه وحيثياته، وبالفعل أكد لي الممثل أن المجتمع التركي منقسم حول هذه الشخصية التاريخية، لذلك فمن أهداف هذا الإنتاج الفني الضخم تصحيح بعض الأفكار الخاطئة الموجودة عند البعض، وكشف النقاب عن المعارك الداخلية والخارجية التي قادها السلطان عبد الحميد في سبيل دولته وأمته وشعبه.

لا يمكن لعمل إبداعي عظيم مثل عاصمة السلطان عبد الحميد، أن يخلو من العنصر النسوي، لذلك كان لا بدّ من استجواب نجمتين تركيتين تمثلان دور كل من زوجة وأخت السلطان.

الأولى هي النجمة التركية أوزلم جونكير، والتي تلعب دور زوجة السلطان عبد الحميد الثاني، بيدار قادين، المرأة القوية ذات النفوذ الواسع والتي تدير حرم القصر العثماني. عبرت الممثلة عن الصعوبات التي واجهتها في البداية، لكنها مع الوقت أصبحت متحكمة أكثر في دورها. والنجمة الثانية هي سلين أوزتورك، والتي تلعب دور أخت السلطان عبد الحميد الثاني، السلطانة سنيحة، شخصية رصينة معتزة بحملها للدم العثماني الأصيل، والعدو اللدود لزوجة السلطان، كانتا دائمًا في حالة صراع داخل القصر بحثًا عن مزيد من الهيمنة.

العمل في مسلسل تاريخي ضخم الإنتاج مثل عاصمة عبد الحميد ليس بالأمر الهين؛ فقد يبقى المسلسل سنوات طويلة، وهذا ما يتطلب من الممثلين جهدًا كبيرًا وتفرغًا تامًا، وقد وضّحت لي الممثلتان الصورة أكثر، فالمسلسل في هذا الموسم فقط يذاع منذ أكثر من 30 أسبوعًا، طول هذه المدة، يأتي فريق المسلسل إلى مكان التصوير صباحًا، لديهم روتين دائم، تصفيف الشعر، وضع الماكياج، وارتداء الملابس، حفظ الأدوار ثم بداية التصوير. الأمر مرهق، ورأيت كيف يعملون مثل خلية النحل داخل موقع التصوير، لكن في الوقت kفسه لاحظت مدى العلاقات الإنسانية الراقية التي تجمع كل فريق المسلسل، علاقات يحكمها مبدأ التعاون الغير مشروط لإنجاح العمل.

لم أكن لأفلت فرصة مقابلة مخرج المسلسل، آمره كونوك، شاب مبدع في عقده الثالث، استطاع مع فريق عمله إخراج عمل فني رصين يضاه كبرى روائع المسلسلات العالمية. أعجبني في آمره طموحه الجامح وتفننه؛ فقد أخرج أكثر من 100 حلقة في مسلسل عاصمة عبد الحميد، مدة الحلقة الواحدة حوالي 140 دقيقة، تداع أسبوعيًا منذ أكثر من سنتين وما زال العمل مستمرًا محقِّقًا أعلى درجات المشاهدة.

عاصمة عبد الحميد عمل فني رصين، يُبني بسواعد الشباب، بالنسبة لي هو أكثر من مسلسل عادي، الأمر يتعلق برسالة عميقة المغزى وفيرة الدلالات، تنسجم مضامينها مع طموح التجربة التركية الرائدة. المسلسل تاريخي درامي تربوي عبر عن مجموعة من الشخصيات الجوهرية في تاريخنا المعاصر، كانت تجربة شيقة وممتعة أن أشاهد عن كثب كيفية كتابة التاريخ، وتصحيح هفوات الذاكرة الجماعية، لقطات ستبقى محفورة في الذهن وأنا أمثل دورًا مؤثرًا لتلميذ الشافعي، الإمام الكبير الذي يعد مدرسةً متكاملة في كثير من المجالات.