السباق مع الزمن
Ali Bin Towar Network
في هانغزو، هناك حسن تدبير وقت المواطن.

في هانغزو، يشعر الزائر وكأنه في فضاء مترامي الأطراف، في مجرة تائهة في الفضاء، لكنها تعرف طريقها ولا تنحرف عن مسارها، دقيقة التصميم، معقدة البناء. هناك مبانَ تمثل عن الشمس، وأخرى القمر، ووغيرها الأبراج المحيطة النجوم، وكله مصمم ليخدم المواطن الصيني.

في هانغزو مراكز خدمات متكاملة للمواطن الصيني، والأبراج تعني الحكومة الصينية، تحضن بعضها البعض لخدمة المواطن الصيني. هناك مبان تخدم أكثر من مليار نسمة. هنا وشدّني الفضول إلى دخول عالم من الأسرار، وفهم سر تقدم الصين، وإصرارها على منافسة الغرب في شتى المجالات. 

دخلت أحد المراكز، وإذ بشاشة أمامي تخاطب كل من يدخل من المواطنين لطلب الخدمات، وكان هناك فيديو يزرع فيهم الولاء وحب الوطن، تأملت الشاشة جيدًا، وشدت انتباهي العبارات المحفزة “لننهض بوطننا الكبير، ونصل به إلى العالمية، لنطوّر ونبتكر، لنستخدم التكنولوجيا”.

كل من يدخل طالبًا بطاقة معينة أو جواز سفر، يرى هذا الفيديو الذي يزرع فيه روح الولاء ومحبة الوطن. هذا الحماس جعلني أحاول التعرف على فاعلية وسرعة خدمات المركز، اقتربت من إحدى المواطنات كي أرافقها في جولتها للحصول على بطاقة ائتمان، وحساب سرعة أداء الخدمة.

سألت تلك المواطنة: ماذا تفعلين هنا؟
أجابت بحماس بالغ: أنا ذاهبة لإحضار بطاقة التأمين الصحي. بعدها أرتني رقم بطاقتها على ورقة، ولم أتوقع وجود ورقة في هذا المركز، قالت إن هذا بسبب رمز الاستجابة السريعة.
علي: هل هذا الرمز الخاص بك؟
أجابت: نعم! يمكنني أن أفعل كل شيء هنا، إذا أمكنهم مسح الرمز. بعد قليل، اقتربنا من المكتب، ولاحظت أن العداد وصل إلى دقيقة و45 ثانية.
علي: لقد كان هذا سريعًا! لقد أنجز المهمة في دقيقتين فقط، بل أقل من ذلك، حوالي دقيقة و54 ثانية.

حصلت تلك المواطنة على بطاقة التأمين الصحي في وقتٍ قياسي، وأخبرتني المواطنة أنها تحتاج هذه البطاقة عند ذهابها للمستشفى، أو تسهيل حصولها على دواء أو ما شابه. اندهشت من سرعة أداء المعاملة، إذ لم يستغرق الأمر دقيقتين كي تدخل من الباب وتأخذ بطاقتها وتصل إلى رقمها، وتأخذ المعاملة، وكانت الموظفة سريعة في أداء هذه الخدمة.

وأنا أحاول استكشاف المركز، صادفت القانون رقم واحد في هذا المكان؛ إنه “الكرسي المتكامل”، كرسي مراقب بشكل دقيق بواسطة كاميرات المراقبة، كي يتأكد المشرفون على المركز أن الموظف لم يغادر كرسيه أو يهمل شؤون المواطنين.

أثارت انتباهي تقنية “الليسكان”، والكاميرا التي تصوّره، والأجمل من هذا “الباركود” وهو عقد متكامل، يمكِّن الباركود المراجع أو المواطن من تجريب إذا كانت الخدمة فيها توقيع عقود أو غيرها، وهذا كله يؤكد مدى رجاحة تلك الخدمة المتكاملة.

تعلم الحكومة أنها تقدم أفضل خدمة للمواطن بواسطة هذه الاَليات والإجراءات، لكنها مع ذلك تحرص على معرفة رأي الناس وتحليل رضا الجمهور والأخذ بآرائهم واقتراحاتهم. يوجد بالمركز أكثر من تسع وزارات لضمان فعالية الخدمة، ما يعني أن الحكومة الصينية تصر على تسهيل إنجاز معاملات المواطن والحفاظ على وقته. وأنا أنظر إلى الشاشة، رأيت أن عدد المعاملات بلغ 4049 مراجعًا في أقل من ساعتين، ما يعني أنهم في اليوم الواحد ينجزون أكثر من 20 ألف معاملة، ماذا لو قلت لكم أن كل المراكز في الصين تعمل بمثل هذه الانسيابية السرعة!

أول سؤال خطر ببالي يوم دخلت هذا المكان: ماذا سيحدث لو تعطّل هذا النظام السريع والمعقد؟ كيف سيتعاملون مع هذا المشكلة؟ خاصة وأن الناس سيتراكمون وستصبح الخدمة صعبة للغاية. وسألت “مستر ريان” مسؤول العلاقات العامة بمركز الخدمات الحكومية في “هانغزو” هذا السؤال:
رايان: روجنا منذ العام الماضي لمبدأ “حل المشكلات لمرة واحدة”، لقد أنجزنا الكثير في الوقت الراهن، ومن خلال التدابير التالية تحسّنت كفاءة شبابيك المعاملات.
أولًا: نستخدم إدارة موارد بيانات هانغزو؛ لمشاركة البيانات والحصول عليها، أثناء ذلك لا يحتاج الشخص المشمول بالتأمين أن يقدم الأوراق المطلوبة، وعليه فقط أن يقدم بطاقته الشخصية على شباك المعاملات، في المقابل يمكن للمعاملة أن تتم بطرق مختلفة، مثلًا عبر الهاتف المحمول، أو جهاز الخدمة الذاتية بواسطة الانترنت، يمكنك إجراء المعاملات ذات الصلة.

سألت ريان: حين دخلت رأيت الموظفين جميعًا مستعدين وفي كامل التركيز مع العملاء، لدرجة أنهم لا يستخدمون هواتفهم المحمولة، أتدربونهم على ذلك؟!
رايان: في إطار تبسيط الوسائل وتحسين العملية، تم تحسين كفاءة شبابيك الخدمة بشكل ملحوظ، خاصة منذ انطلاق مبادرة “حل المشكلات لمرة واحدة” العام الماضي، بما في ذلك التدريب على مهارات العمل والاتصال. كما عززنا ضوابط الموظفين العاملين على العدادات، وفيما يخص استخدام الهواتف المحمولة؛ فإنه لا يُسمح للموظفين باستخدام الهواتف خلال ساعات العمل، لذلك نجمعها ونضعها في خزانة الهواتف.
علي: حسنًا! لنقل إنني مواطن صيني، وأعمل صباحًا، وليس لدي وقت للقدوم إلى هنا؛ فهل توفرون الخدمات وفقًا للساعات التي تناسبني؟
رايان: نعم! بالطبع نوفر لعملائنا أحسن الخدمات؛ ففي أيام العمل الاعتيادية فإن خدمتنا لعطلة نهاية الأسبوع مفتوحة يومي السبت والأحد، وأنشأنا لذلك “منطقة خدمة ذاتية” تعمل على مدار 24 ساعة، ويمكن للعملاء تسليم الطلبات بعد ساعات العمل، سيسهل ذلك على العملاء بالتأكيد.
علي: كيف تتعاملون مع الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة؟
ريان: افتتحنا ممرًا خاصًا للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، لا يحتاج أحدهم الانتظار في الدور، بإمكانه التوجه فورًا إلى شباك الخدمات لإتمام مختلف معاملاته، وإن كان الشخص كفيفًا؛ فسيرشده أحد الموظفين إلى العداد، أما ذوي الاحتياجات الأخرى كالمصابين في أقدامهم وأرجلهم فإن المركز يوفِّر لهم كرسيًا متحركًا مجانًا، ما يسهِّل عليهم الوصول إلى شباك الخدمات وإنجاز المعاملات.
علي: يعلم الجميع أن الصين متقدِّمة جدًا، وتستخدم التكنولوجيا دومًا، لكنني ما زلت أرى بعض الأوراق هنا وهناك! ما خطتكم؟ ألا تحاولون إحلال التكنولوجيا محل الورق؟!
رايان: نسعى للإصلاح وتقليل الأوراق المطلوبة.. الحصول على أوراق الشخص المؤمن عليه بشكل أساسي عبر مشاركة البيانات، يمكنه إنجاز الكثير من الأعمال ببطاقته الشخصية. في الوقت نفسه يمكن الانتهاء إجراءات عديدة بالإنترنت من خلال محطة الخدمة الذاتية والهاتف المحمول. وتدريجيًا تتقلص حاجة حضور العميل، وتزداد كفاءة المنصات عبر الإنترنت، هذا اتجاه التنمية المستقبلية، يمكن للناس إنجاز الأشياء بطريقة أكثر يسرًا.

وأنا أستمع إلى السيد ريان عن تسهيلات المعاملات، لاحظت أن الجواز الصيني من أصعب الجوازات في العالم، إذ لم تُصرف إلا عشرة جوازات هذه السنة من أعلى سلطة بالبالد، والمواطن الصيني إذا حصل على جواز غربي أو أي جواز ثانٍ؛ فإنه يخسر جوازه الصيني مباشرةً.

أنا أفكر في هذا الأمر وأرى كاميرات المراقبة تأمل المركز، ولاحظت هنا أناسًا كثيرين وحضور رقابة حكومة مكثفة في المركز؛ فسألت السيد رايان عن مدى نجاح المركز في تحقيق رضا العملاء؟
أجابني ريان: مبدئيًا نركز على احتياجات ورضا الناس، نحن نعتبر راحة المواطنين مبدأ أساسيًا، لذلك في عمليات التحويل المالي نُصر دومًا على تولي أمور المواطنين بكل سرعة وأريحية، وهذا المتطلب ضروري لتقديم الخدمة. بعد هذه المعلومات التفصيلية، تبادلت مع السيد رايان كلمات الشكر ثم انصرفت لاكتشاف باقي أسرار المركز العجيب.

دخلت إحدى الغرف التكنولوجية المتطورة، وكان فيها ما يدل على استيعاب الحكومة لأهمية التكنولوجيا في التطور والنمو، إذ تحاول الحكومة الصينية تأهيل الناس لاستعمال هذه التقنية، دون التسبب بأي ارتباك أو قلق في التعامل مع مستجداتها، وأعدت الحكومة للجمهور المستفيد غرفة تقليدية بها طريقة قديمة، وأيضًا كي تعوِّدهم بهدوء وبشكل تدريجي على هذه التقنية. يعمل المكان هنا 24 ساعة لخدمة المواطنين.

وقفت أمام أحد الأجهزة، جهاز كامل متكامل، حيث جلست إحدى المواطنات أمامه، وظهرت لها كل البيانات. وضعت بطاقتها ثم ضغطت على الموافقة، ثم حفظ البيانات، والتقط الجهاز صورة وجهها مباشرة، وذكّرها بواسطة “البساط الوجهي” المعتمد بشكل كبير هنا في الصين.

بعدها رأينا “المواصفات” الظاهرة على الشاشة، وأسعفنا المترجم في فهم مغزاها، ومن بعدها تُطبع ورقة بنكية. لاحظت أن كل البيانات موحّدة في الصين، ويمكن طبع شهادة بنكية متكاملة في هذا المكان الحكومي.

كل الخدمات التي تظهر هنا هي خدمات المواصلات والمتقاعدين والجواز أيضًا، ويمكن استلامه في اللحظة نفسها، حتى الشهادة البنكية طُبعت في أقل من 30 ثانية، كل البيانات موحَّدة في مكان واحد فقط. واقتربت من بعض الأجهزة، لم أعرف وظيفتها للوهلة الأولى، إنها أجهزة تمثل وزارات؛ وزارة التجارة والصناعة، وزارة المالية، وزارة المواصلات وغيرها، كلها تدخل في نطاق التطبيق الذكي، ما يسهِّل على المواطن إنجاز المعاملات.
حاورت موظفة بالمركز، وسألتها: أنتِ تستعملين الآيفون مع هذه الشاشة؟
أجابت: نعم!
علي: ولكن لماذا؟
الموظفة: حتى تتمكن من رؤيتها بشكل أفضل، لذلك أضعها على الشاشة.
قلت لها: حسنًا! أريني ما الخدمات التي تنفذينها هنا؟
الموظفة: إذا لم أستطع الوصول إلى هذه الآلة أو معرفة مكان وجودها يمكنني العثور عليها من خالل الهاتف الخلوي؛ فأبحث عنها فقط عبر الهاتف، ويمكنني العثور على “محطات العمل”، إنها خريطة تظهر على الشاشة، تسهِّل العثور إلى الخدمات الذاتية بسهولة.
علي: هل تستطيعين الدخول إلى جميع الخدمات من خلال هذا التطبيق؟
الموظفة: أجل بالطبع.

وبينما كنت أستمع إلى هذه الشروحات العميقة، أدهشني أن رؤية خيارات عدة لمعاملة واحدة فقط، وأدهشني أن الحكومة تصر على توفير أفضل الإمكانيات، فإذا لم نستطع استخدام التكنولوجيا، يمكن الدخول إلى المكتب، واستخدام الطريقة الكلاسيكية التي تعود عليها، ويمكن استخدام التكنولوجيا وخياراتها الكثيرة والمتعددة، كلها في خدمة المواطن بمختلف فئاته.

بعد لحظات فرغت الموظفة من إعداد بعض المستندات، وقالت: هذا هو نفس المستند الذي أرتك إياه زميلتي.

ثم أرتني شهادة بنكية من البنك، وسألتها عن إمكانية طباعتها؟ أم إنها ليست بحاجة إليها؟
أجابت: يمكنني مشاركتها من خلال جهاز الكمبيوتر، ثم نقلها عبر البلوتوث حتى أتمكّن من الطباعة.
قلت لها: إذن لديكم هنا ثلاثة خيارات؛ إنهاء المعاملات وجهًا لوجه، أو استخدام الآلة أو عبر الهاتف الخلوي.
الموظفة: نعم!

وحتى تكتمل هذه الرحلة المليئة بالأسرار، قابلت مديرة مركز الخدمات الحكومية بــ “هانغزو”، كي أطفئ ما تبقى من عطشي المعرفي وفضولي غير المنتهي؛ لسبر أغوار هذه الأسرار التي تثير فيَّ الحماسة وروح البحث والاستقصاء.

أخبرتني المديرة أنه سابقا في مجال التسجيل العقاري كانت التحويلات المالية تمر في ثلاثة أقسام، أما الآن فيتم التعامل معها في قسم واحد.

وأكدت لي المديرة أن كل ما يحتاجه العميل هو أن يمر على نافذة واحدة للتسجيل والتحويل. وأخبرتني أنهم يستخدمون تقنية مشاركة المعلومات لنتبادل بيانات العميل، واستخدام مختلف المعلومات من مختلف الأقسام، ثم قالت إن هذا النوع من التعامل مهم لنا، هذه طريقة عملنا، وفي النهاية يمكننا أن ننجز المعاملة خلال ساعة واحدة. 

وأضافت المديرة أن عمل المركز كان معقدًا جدًا في البداية، وكان على الناس أن يمروا بثلاثة أقسام، بمعنى إذا كان العميل يدفع ضرائبًا، فعليه أن يمر أولًا على قسم الضرائب؛ وإن كان يريد أن يؤكد على عملية التحويل، فعليه أن يمر على قسم إدارة الإسكان؛ وإذا كان يريد تسجيل العقار، فيتعين عليه الذهاب إلى قسم الأراضي.

وأوضحت لي المديرة أن الناس اليوم ليسوا بحاجة للذهاب للأقسام الثلاثة، وانتظار دورهم لإتمام المعاملات، إذ يمكنهم الآن أن يضمنوا تسجيل العقار من خلال مجموعة واحدة من الأوراق المطلوبة، نافذة واحدة، ساعة واحدة ونظام واحد. النظام هنا مريحًا جدًا، الناس راضون عن خدمات المركز بدرجة أكبر.
وهنا سألتها: كم عدد المهمات التي تنجزونها يوميًا؟
الموظفة: نستقبل ما بين (2000 – 3000) طلب، ننجز منها يوميًا حوالي ألف معاملة.

تبادلنا الشكر ثم ودعتها والدهشة تصاحبني لما شاهدته من سرعة أداء الخدمات، ووفاء في خدمة المواطن الإمبراطور.

كل ما في هانغزو الصينية من جمال معماري، وجودة في الخدمات يهدف إلى شيء واحد فقط، وهو حسن تدبير وقت المواطن؛ فالوقت الذي تكسبه الدولة في توفير هذه الخدمات، تكسب فيه المليارات من الدولارات كل سنة، والأهم من ذلك أنها تكسب ولاء المواطنين بتوفير الخدمات، وتتوقع الحكومة الخير الكثير من المواطن عند توفيرها تلك الخدمات. ونحن في قطر عندنا هذه الإمكانيات وقد تكون أفضل، وصدق سمو الأمير عندما قال: “قطر تستحق الأفضل من أبنائها”. كثيرون يسكنون في أوطانهم وذلك هو المعتاد، لكن الأجمل حين تسكن الأوطان في أبنائها، ساعتها فقط يصبح المستحيل معتادًا.