
في هانغزو الصينية، وقفت أمام صيدلية بنيت منذ 1649، ولا تزال صامدة لغرض واحد؛ إنه الطب الصيني، هذا الطب الذي بني في بداياته على الأساطير، وأصبح اليوم يدرّس وفق قواعد مضبوطة في الصين والدول الغربية. دخلت الصيدلية وأنا متلهف لمعرفة أنواع الأعشاب المستخدمة فيها، أثارني شكلها الذي يمتاز بالنظام والدقة والجمال يمثله الديكور وترتيب الأعشاب والأدوية بطريقة متناسقة تريح العين وتبهج القلب.
جميع الأعشاب موجودة هنا، حتى الأعشاب الخاصة بـــ “الراحة النفسية”، حتى بعض الأعواد الموجودة عندنا في العالم العربي يستخدمونها في العلاج، حقيقة هذه ليست صيدلية فقط، بل مستشفى كامل متكامل، وجد من القِدم، لكنه حافظ على نفس الطراز القديم مع إضافة نكهة التكنولوجيا من خلال جهاز يمكِّنهم من الاطلاع على جميع الوصفات.
أثارتني جذور نبتة الجنسنغ السحرية، والتي تستخدم في علاج أمراض عديدة، وقد يصل ثمنها إلى 1800 دولار، إضافة إلى وجود نباتات أخرى توجد عندنا مثل القمح والزعتر؛ فأغلب الأعشاب تستخدم في الطب الشعبي الصيني.
عين الجمل، العسل مع زيت الزيتون والفلفل الأسود، وصفة نموذجية يطبخها أحد المختصين لعلاج بعض الأمراض. وأنا أشاهد نشاطات هذه الصيدلية، أحببت أن ألتقي “جون” مشرف الصيدلية لأفهم منه بعض أسرار هذه الصيدلية العجيبة.
استقبلني جون بابتسامة، وقلت له: هذه أقدم صيدلية هنا، أعتقد أنها مرت بعدة مراحل، أخبرني عن تاريخها.
قال جون: تاريخ هذه الصيدلية 370 سنة، إذ تأسست عام 1649، وهي من أوائل المؤسسات التي تمارس الطب الصيني، وتعدّ متحفًا للطب الصيني في شارع “عهد سونغ” في مدينة هانغزو.
قلت: إنها تنافس الطب الغربي، لكن ما الذي يجعل الناس يعتمدون أساسا على الطب الصيني؟
جون: يرجع عمر التداوي بالطب الصيني لاَلاف السنين، إنه علاج الصين بأكملها، لم يكن هناك طب غربي يومها. يمكن للطب الغربي علاج مرض معين، يعالج ذاك المرض فقط، على عكس الطب الصيني المستخدم لعلاج والتعافي الشامل وفق الحالة البدنية. إن هناك بعض القواعد لهذا الطب، تختصرها جملة في الطب الصيني تقول إن أكتر الأطباء تقدُّمًا والأطباء المتوسطون يعالجون الأمراض الموجودة بالفعل، وإن معظم الأطباء العاديين يعالجون الأمراض الخطيرة.
سألت جون: أحاول أن أفهم هل يعتمد الصينيون فعليًا على الطب الصيني التقليدي؟
جون: الطب الصيني التقليدي يزداد شهرة أكثر فأكثر، على سبيل المثال، نحن الاَن في عيد التداوي؛ ففي الصين يقول المثل “يخزن الناس الطاقة في الشتاء، وفي الخريف يحصدون ما خزّنوه”، هذه بداية مهرجان التداوي، لذلك يجب أن نهتم بأجسامنا، فإن كانت لديك أمراض مزمنة مثل السكري، التهاب الشعب الهوائية، أمراض التنفس وغيرها من الأمراض، يمكنك أن تستخدم المراهم الصينية لعلاجها، وقد لا يكون العلاج مؤثرًا في السنة الأولى، وقد يأخذ منك ثالث سنوات، ولكنك ستلاحظ التحسن الصحي المستمر.
بعد سماعي لهذا الشرح المفيد، قلت: تعمل عملًا رائعًا بحفاظك على هذه الصيدلية، وأنا على ثقة أنك ستورثها للأجيال القادمة، ثم تبادلنا الشكر والتحية، ومازال في نفسي الفضول لمعرفة أسرار الشفاء في الطب الشعبي الصيني. ولأهمية الطب الشعبي الصيني، التقيت أحد أطباء المختصين قبل مغادرتي المكان، ودخلت إلى مكتبه، وجرى بيننا هذا الحوار:
علي: دكتور! أود أن أعترف لك، أكلت الطعام الصيني على مدى الثلاثة أسابيع الماضية، ولا أشعر أنني على ما يرام.
الطبيب: وَفْقًا للطب الصيني التقليدي، نعتقد أن لديك نشاطًا روحيًا زائدًا، وأنك لا تنام ليلًا بما فيه الكفاية.
علي: نعم! أنا لا أنال قسطًا كافيًا من النوم، كيف لي أن أنام وحولي هذا الطاقم، أنام حوالي أربع ساعات ونصف فقط يوميًا.
الطبيب: قلة النوم تجعل الناس يشيخون، يجب عليك أن تبدي اهتمامًا أكبر برعاية جسمك.
علي: إن شاء الله سأبذل جهدي في سبيل ذلك، لكن حاليًا لا أستطيع النوم بالقدر الكافي.
الطبيب: أما باقي جسمك فهو على ما يرام وصحتك جيدة، يرشدك الطب الصيني التقليدي لعالج مرضك، والمحافظة على توازن “الين واليانج”، عمومًا حالتك الصحية جيدة.
علي: أنا سعيد بسماع ذلك، شكرًا جزيلًا لك! ما نوع العلاج الذي تستخدمه لعلاج الأمراض المستعصية؟
الطبيب: الطب الصيني ثروة الشعب الصيني؛ فهو قيّم جدًا، ولديه ماضٍ عريق.
علي: حسنًا، كم يستغرق العلاج؟
الطبيب: تعايشت الحضارة الصينية مع الطب الصيني لما يقارب الألفي عام، خدم الطب الشعب الصيني، وأثر تدريجيًا في جميع أرجاء العالم.
كثيرًا ما يخطر ببالي السؤال حول علاقة الطب الصيني بالعالج الحديث، ومدى تقاربه مع الطب الغربي، لذلك سألت الطبيب: كيف ترى الطب الصيني في إطار العالج والطب الحديث؟
الطبيب: أولًا ثمة فرق شاسع بين الطب الصيني والطب الغربي، نقر بأهمية الطب الغربي، لكن الطب الصيني يقر بأهمية الحفاظ على وظائف الأعضاء. يمكن للطب الصيني علاج العديد من الأمراض الصعبة، ويلعب دورًا محوريًا في استمرارية الأمة الصينية؛ فيعالج مثلًا أمراض الجهاز الهضمي ومنها اَلام المعدة، وأمراض الجهاز التنفسي ومن بينها السعال والأمراض العصبية مثل الأرق، الاضطرابات الجنسية كالعقم والعجز الجنسي، الطب الصيني فعال أكثر من الطب الغربي.
وأضاف الطبيب: لقد درست بعض مواد الطب الغربي في الجامعة، قسمت المواد إلى أربع مواد مقابل ست؛ ست مواد للطب الصيني وأربع للطب الغربي، لقد درسنا الطب الغربي الحديث.
علي: هل درست الطب الحديث أو الطب الغربي؟ هل حاولت مقارنته مع الطب الصيني؟
الطبيب: حاليًا، نتبع ثلاثة مناهج لتعليم الطالب الطب الصيني، أولها التدريب الجامعي، ثانيها عبر تعليم المدرس الخصوصي، بعض الأشخاص يرتادون الجامعة ولكنهم يتعلمون الحرفة من مدرسين خصوصيين، لذلك يمكن تحصيل تلك المعارف عبر وسائط عديدة، ويتناقل الناس الطب الصيني القديم من جيل إلى جيل.
كلمات دقيقة ومختارة من الطبيب البالغ من العمر 86 سنة، ولم يستخدم وسائل العالج الحديثة الغربية أبدًا، يستخدم العلاجات القديمة فقط، ويؤمن أن الجسم الطبيعي يجب أن ينسجم مع الطبيعة كي يحافظ على توازنه، ويحرص على ألا يدخل إلى جسمه أي كيماويات.
وأنا أستمع إلى كلام الطبيب أثار انتباهي وجود تلميذ بجانبه فسألته: أرى تلميذًا على يسارك، لتعلمه هذه الحرفة ولتنقل هذ العلم للجيل القادم، أنا سعيد جدًا برؤية ذلك. لكن، أما زلت تحتفظ بنفس التعاليم التي نقلها لك أجدادك؟!
الطبيب: لدينا مقولة شهيرة في الصين فحواها أن “علينا التعلم من الأجيال السابقة” أي أن أحد أساليب التعلم هو التعلم من الاَباء والأجداد، والأسلوب الآخر هو القراءة والدراسة بشكل مستقل، ولكن يجب أن يكون لذلك بعض الأسس الفكرية لتعلم الطب.
علي: لن أجادلك بخصوص عالج الطب الصيني للعديد من الأمراض والمشاكل الصغيرة كالحمى ومشاكل المعدة، ولكن هل يستطيع الطب الصيني أن يعالج أمراضًا معقدة مثل السرطان والأمراض المستعصية الأخرى؟
الطبيب: يعد السرطان أكثر الأمراض المستعصية على الطب الصيني، ولكن ممارسي الطب الصيني أسهموا في عالج السرطان والتخفيف عن المرضى.
بعدها سألت الدكتور عن مستقبل الطب الصيني، فأجابني أنه يمكن وصف تطور الطب الصيني بالمعقد، ونظرًا لاختلاف تكوين معارف الأشخاص، فمن المحتمل جدًا أن تختلف الاتجاهات البحثية الخاصة بالأشخاص؛ فبعض الأشخاص يفضلون دراسة الطب الغربي إلى جانب الطب الصيني، وبعضهم يفضلون أن يكون الأساس هو الطب الصيني وأن يستزيدوا من الطب الغربي، والآخرون يعتقدون أن عليهم الاكتفاء بالطب الصيني وحسب، ولذلك يتعلق الأمر بالاتجاهات المستقبلية للتنمية، أعتقد بأن الطب الصيني سيبقى موجودًا إلى الأبد، لكنه سيستوعب بعضًا من جوهر العلم الحديث، وسيواصل خدمة جماهير غفيرة من الناس.
بعد أن شكرته، طلبت منه أن يهديني نصيحة؛ فقال بكل تواضع: “أنت شاب وجسمك سليم من كل النواحي، ولكن في الطب الصيني، لا سيَّما في العلاج، نولي الحفاظ على الصحة الجيدة أهمية قصوى، وهذه العملية لها مدى طويل، من الاَن فصاعدًا، يجب عليك المحافظة على صحتك، لا تنتظر حتى تمرض، ولكن ابدأ في حماية نفسك من الآن”. بعدها طلبت منه أن يمنحني وصفة؛ فأهداني وصفة طبية آخذها لأول في حياتي مبنية تمامًا على الأعشاب الصينية، كتب لي وصفة لعالج الضغط، وأدرج الشاي في هذه الوصفة؛ لأنه يساعد على النوم بشكل كبير، وصف لي وصفة ثالثة لعالج الإرهاق.
بعدها انتقلت إلى “قلب الطب الصيني”، حيث يظن من يراه أول مرة أنه مكان سياحي؛ لأنه يتوفر على كل شيء يخص الطب الصيني. زهرة الزنبق من “تشجيانغ” وقنينة مشروم مجفف تساعد على السمع برائحتها القوية، وزهرة أقحوان حمراء. تنقلت بين هذه المناظر الطبية التي تريح النفس، كأنني أتنقل بين أزهار حديقة مزروعة كل واحدة في مكانها المخصص لها، لم أقاوم رغبتي في فتح جميع الأدراج لاكتشاف الأسرار المخزنة فيها، أسرار تعتبر أساس العالج في الطب الصيني. وأنا أتنقل ببصري بين الأدراج والأرفف، وقع بصري على يرقة تعد من أهم الأشياء التي تستخدم في الطب الصيني، يصل سعرها من ألف إلى 24 ألف دولار لليرقة الواحدة.
بنيت الثقافة الصينية على الانسجام مع الطبيعة، ومع التطور الذي تشهده الصين اليوم من عمران وتكنولوجيا، إلا أنها منسجمة بشكل جميل مع الطبيعة، وحتى الطب الشعبي هو جزء لا يتجزأ من هذه الثقافة. يؤمن الصينيون بشكل كبير أن علاج أي مرض أو أي اختلال في الجسم، موجود في الطبيعة، بمعنى أنهم يرون أن الإنسان عندما يفقد توازنه لا بدّ له أن يرجع إلى الطبيعة كي يستعيد التوازن المفقود؛ فالإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة.