بورصة.. العاصمة العثمانية
Ali Bin Towar Network
رحلة تاريخية بامتياز!

كل زاوية من زوايا تركيا حسن وبهاء، ولكل مدينة من مدنها طابع مميز، لم أتملّل قط من اكتشاف أسرارها التي لا تنتهي، وكلما أعتقد أنني وصلت إلى نهاية الطريق أقف على الجديد والنادر والطريف. كانت رحلتي إلى مدينة بورصة من أروع الرحلات في حياتي، مدينة راقية بحضاراتها وتراثها الزاخر الذي ينبض بالتاريخ منذ آلاف السنوات. وقفت أمام معلم تاريخي عريق يدعى بوابة السلطنة، قلعة ضخمة بأسوار شاهقة ما زالت صامدة منذ أكثر من 2000 سنة شاهدة على فترات تاريخية غابرة وموغلة في القدم.

تعتبر قلعة السلطنة من بين أقدم القالع في تركيا ومنطقة الأناضول، شيِّدت منذ أكثر من 22 قرنًا، تعاقبت عليها حضارات ودول عديدة، من الإغريق والرومان إلى البيزنطيين والعثمانيين، كانت القلعة تلعب دورًا استراتيجيًا مهمًا. ظلت قلعة السلطنة مقاومة لكل العوامل الطبيعية والبشرية، والتي كانت من شأنها أن تهدم معلم حضاريا ما زال صامدًا حتى اللحظة، خصوصا الزلزال الذي ضرب مدينة بورصة سنة 1855، والذي حطم جزءًا من أسوار القلعة.

عندما وقفت متأملًا البوابة الكبيرة للقلعة، سرحت بخيالي إلى عالم الماضي الجميل، أيام الحضارات القوية التي حكمت البحر الأبيض المتوسط، تخيلت القادة والمحاربين والناس العاديين وهم يمرون من بوابات القلعة. نستكشف تاريخًا عظيمًا من النقوش الموجودة على الجدران، أحجار كبيرة ورسومات مبهرة تحكي لنا حكايات وقصص الدولة المتعاقبة على الحكم، سواء قبل الميلاد كالإغريق والرومان أو الدول الإسلامية كالفاتحين السلاجقة والعثمانيين.

بورصة العاصمة الأولى للعثمانيين، مدينة السلاطين والمساجد، وهي أيضًا تسمى بالمدينة الخضراء، بسبب كثرة الحدائق العامة والمتنزهات الموجودة حولها، فضلًا عن الغابات المتنوعة الشاسعة المنتشرة حول المنطقة. توجهت إلى قلب بورصة، وزرت أحد أهم المعالم التاريخية في تركيا، إنه المسجد الكبير، أو أولو جامع كما يسميه الأتراك، نسبة إلى جبل أولوداغ الشاهق في ضواحي بورصة.

بني الجامع بين عامي (1396 – 1399) بأمر من السلطان العثماني بايزيد الأول، وذلك عقب انتصاره في معركة نيقوبوليس على تحالف يضم دول وممالك أوروبية كثيرة.

تُحكى قصة طريفة عن بواعث تشييد المسجد؛ فقبل أن ينتصر العثمانيون في هذه المعركة، نذر السلطان ببناء عشرين جامعًا من مال الغنائم إن قُدِّر لهُ النصر في الحرب، وبالفعل شرع بالبحث عن أماكن ليبني فيها المساجد. اقترح عليه العلماء بناء مسجد كبير بعشرين قبة على اعتبار أن القبة هي المسجد، وبالفعل قبل السلطان الاقتراح، وتم تشييد أكبر خامس مسجد في ذلك الوقت.

في عام 1517 م، وبعد أن أنهى العثمانيون دولة المماليك، وأصبحت المنطقة العربية تحت الحكم العثماني، أهدى السلطان سليم الأول إلى أولو جامع كسوة باب الكعبة الشريفة، وعُلِّقت في الجامع على يسار المنبر والمحراب، ولُقِّب السلطان سليم بخادم الحرمين الشريفين، وهو أول من حمل هذا اللقب.

تتميز مدينة بورصة بقراها العثمانية، كنت متحمسًا لزيارة هذه الأماكن التاريخية والوقوف عند أبوابها ورؤية معمارها. قرية تقع في مكان مبهر، تحيط بها الجبال من كل مكان، مساحات خضراء خلابة، كل هذا يمتزج مع أصالة التاريخ وسحر الطبيعة. أصبت بالذهول والانبهار من شدة جمال تلك القرية، سرحت بخيالي إلى عالم العثمانيين وأصبحت أتخيل كيف كان الناس يمرون من تلك الأزقة الضيقة، ويتبادلون أطراف الحديث على عتبات منازلهم.

بنيت بيوت القرية العثمانية في بروصة من الخشب والحجارة، ويتكون معظمها من ثلاثة طوابق ورُصِفَت أزقتها الضيقة بالحجارة الكبيرة. الشيء اللافت للانتباه أن الناس ما زالوا يسكنون تلك المنازل العريقة، إلا أنه في سنة 1985 أصرت الحكومة أن تحافظ على المنازل؛ فطالبت بعدم المساس بالجدران إلا بإذن مسبق، ويبلغ مجموع منازل القرية 250 ، منها 57 منزلًا مصنَّفًا في قائمة اليونسكو.

على جنبات الطريق، تبيع النسوة العديد من المنتجات المميزة، مثل الصابون التقليدي أو ماء الزهر وبعض الأكلات المحلية الصنع والهدايا التذكارية. دخلت إلى محل تباع فيه أنواع عديدة من العسل، فالمنطقة غنية بالأشجار والورود والزهور والأعشاب المختلفة، ومن الطبيعي أن يتكاثر فيها انتاج العسل، وجدت أنواعًا غريبة من العسل لم يكن لي عهد بوجودها، مثل عسل الكستناء الذي كان لذيذًا مع أنه خفيف بعض الشيء مقارنة مع أنواع العسل الأخرى التي أعرفها.

كانت رحلتي إلى بورصة والمناطق المحيطة بها تاريخية بامتياز، تُهت وسط الحكايات والقصص المشوقة، وانبهرت بجمال معمارها الذي ما زال شاهدًا على حضارات عظيمة، هذا الافتتان يدفعني إلى مزيد من الاكتشاف والتعمق بإصرار وعزيمة أكثر.