
لم يكن للنهضة التركية الحديثة في مجالات الاقتصاد والسياحة والتنمية وغيرها، أن تكون بمعزلٍ عن نظام تعليمي متطور؛ فالتجربة التركية سعت أن يكون التعليم العالي مكوِّنًا أساسيًا ورافدًا جوهريًا راهنت عليه لبناء دولة مزدهرة ذات مقومات قوية. بعد سنة 2010، بدأ مستوى التعليم العالي يرتفع إلى أن وصلت 7 جامعات تركية عام 2014 -وفقًا لصحيفة “تايمز هاير بريكس للتعليم والاقتصادات الناشئة”- إلى قائمة أفضل 100 جامعة في العالم، وتسع جامعات تركية بين أفضل 800 جامعة في التصنيف العالمي بواسطة “كواكواريللي سيموندس (QS) في بريطانيا.
حاولت أن أمضي قدمًا وأكتشف الجامعات التركية ومقوماتها وطرق تعليمها ومناهجها، حتى أعرف من كثب التفاصيل الدقيقة المرتبطة بالتعليم العالي في تركيا. كانت البداية من “إسطنبول شهير” جامعة عصرية تأسست سنة 2008، في الطرف الآسيوي من مدينة إسطنبول، تتوفر على عددٍ كبير من التخصصات سواء على مستوى البكالوريوس أو الماجستير أو الدكتوراه، مبانٍ ضخمة بإمكانيات مهمة تسعى لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الطالب الأتراك والدوليين على حدٍ سواء.
قابلت رئيس الجامعة الدكتور بيامي جليكان وأجريت معه مقابلة مطولة، استفدت منه كثيرًا، إنه رجل ذو خبرة وتجربة كبيرتين في المجال الاكاديمي، كما أنه يهوى ركوب الدرجات ويحث الطالب والموظفين داخل الحرم الجامعي على ركوبها، لما لهذه الرياضة من إيجابيات على صحة الإنسان والبيئة.
حتى إن الدكتور صمم الحرم الجامعي ليكون مخصصًا فقط للدراجات! شجعني هذا الأمر أن أقترح على إدارة المؤسسة القطرية للإعلام أن تضيف بعض ممرات الدرجات حول المبنى، حتى تنشر أكثر ثقافة الرياضة والمحافظة على البيئة.
عقدت جامعة إسطنبول شهير -رغم حداثة سنها- العديد من الشراكات وبرامج التبادل الثقافي، مع العديد من الجامعات حول العالم، سعدت كثيرًا وأحسست بفخر كبير وأنا أرى شعار جامعة قطر داخل مكتب رئيس الجامعة؛ فهذا يؤكد متانة الروابط العلمية بين تركيا وقطر.
يرتاد جامعة إسطنبول شهير حوالي 6000 طالب من مختلف التخصصات العلمية والأدبية والتقنية، ما يميز هذه الجامعة عن باقي الجامعات التركية، ضرورة أخذ مقررات إجبارية ومهما كان تخصص الطالب في مجالات معرفية لفهم الطبيعة والمجتمع والحضارة والتاريخ.
يؤكد رئيس الجامعة أن هذه البرامج مصممة لتطوير مهارات الطالب الفكرية والإبداعية، وخلق بيئة تواصلية بينهم وبين المجتمع الذي يعيشون فيه. صحيح أن الدكتور بيامي جليكان في الخمسينات من عمره، لكنني ذهلت بمدى الحيوية التي يتمتع بها؛ فالرجل ذو شخصية مرحة وعقلية شبابية، بل إنني أتقاطع معه في مجموعة من الأفكار؛ فكلانا يحب الأفلام الوثائقية وركوب الدراجات، لذلك أخذت حسابه على الإنستغرام، ودعوته لزيارة قطر وقد رحب كثيرًا بالفكرة.
انتقلت بدراجتي إلى الطرف الأوروبي، وبه تقع جامعة ابن خلدون التي تأسست سنة 2015، انبهرت بمدى رقي وفخامة الجامعة، استقبلني رئيسها الدكتور رجب شانتورك، وتساءلت عن الطريقة التي يُختَار بها الطالب للدراسة في هذه الجامعة، وحسب الحوار الذي دار بيني وبين رئيس الجامعة، هناك نوعان من الطالب الأتراك والدوليين. بالنسبة للأتراك يُقبَلون بعد اجتياز الامتحان الوطني الموحد للجامعات، أما الطالب الدوليين فيتقدمون عبر موقع الجامعة على الانترنت، وتُجرى مقابلات شفوية من أجل اختيار الأجود، وتقدِّم الجامعة منحة جزئية وكاملة على أساس تنافسي.
في العام الماضي، كان معدل القبول نحو % 3، وهذا يعني وجود اهتمام عالمي للانضمام إلى جامعة ابن خلدون. ما يميز الجامعة أنها تدرس بثالث لغات على الأقل؛ التركية والإنجليزية والعربية، يتم تحضير الطلاب وتمكينهم من المهارات المعرفية من أجل التنافس على مستوى دولي، وأكد لي رئيس الجامعة أن قوة جامعة ابن خلدون تكمن في كادرها الأكاديمي المتميز، والغني عن التعريف.
كان الدكتور برهان كور أوغلو عميد كلية الدراسات العليا بجامعة ابن خلدون واحدًا من هؤلاء، استفدت من الحديث معه حول استخدام المكتبات التاريخية والأرشيف العثماني في البحث العلمي، وصرح لي أنه يوجد في تركيا أكثر من 100 مليون مستند.
يضم الأرشيف العثماني والمكتبة السليمانية للمخطوطات وثائق تاريخية هامة وغنية بالمعلومات القيمة التي كتبت خلال 600 سنة الماضية من خلال المنظومة التركية العثمانية، وتهم هذه الوثائق مجالات عدة من السياسة والاقتصاد إلى الثقافة والمجتمع وغيرها، كلها مصنفة حسب الموضوع أو الزمان أو المكان، وتشكل هذه الوثائق الأرشيفية مادة مصدرية هامة للمؤرخين والأنثروبولوجيين وعلماء السياسية وحتى علماء الاجتماع.
كنت دائمًا اتساءل عن أهمية التاريخ في بناء مستقبل الدول، واليوم استطعت أن أوسِّع مداركي حول هذا الموضوع، من خلال الاطلاع على دور التجربة التركية في هذا الأمر؛ فللدولة التركية اهتمام منقطع النظير بالتاريخ والتراث وكل ما له علاقة بالماضي، وذلك اعتمادًا على الجامعات والمعاهد العليا التي تسعى جاهدة إلى انتاج معرفة تاريخية تفتح مزيدًا من الآفاق نحو مستقبل زاهر.
وأنا أتجول داخل مكتبة جامعة ابن خلدون الضخمة قابلت السيد أنس يلمان، مدير المكتب الدولي بالجامعة، استقبلني بحفاوة كبيرة، أجريت حواري معه باللغة العربية، وهذا يعتبر من النوادر في تركيا، استغربت بادئ الأمر من إتقانه للغة العربية. كان توضيحه مقنعًا جدًا؛ فحسب النقاش الذي دار بيننا حول موضوع اللغات الأجنبية في تركيا، اعتبر السيد أنس أن الجمهورية التركية عاشت سنوات طويلة منغلقة على نفسها، وكان الناس لا يسافرون ولا يعرفون غير لغتهم الأم، لأن تفاصيل الحياة كانت كلها بنفس اللغة ومن ضمنها التعليم. لكن تركيا في العقد الأخير عرفت انفتاحًا كبيرًا على العالم، وبدأ الطالب والسياح يأتون من الخارج ما أسهم بشكلٍ كبير في انفتاح المجتمع التركي.
كما فتحنا موضوع انفتاح تركيا على العالم العربي، واستحضرنا الفترة الزمنية الطويلة التي تلت سقوط الدولة العثمانية وقيام الجمهورية التركية الحديثة ومحاولة بنائها على نمط الأفكار الأوروبية، اعتبر السيد أنس أن الأتراك اليوم سواء صناع القرار أو الشعب لا يعارضون هذه الأفكار التي تأسست عليها الدولة التركية، بل اليوم ظهرت حاجة ماسة للبحث عن توازن بين الشرق والغرب، بحيث لا تقطع تركيا بصلاتها وروابطها التاريخية والحضارية مع العالم العربي والإسلامي.
تتوفر جامعة إسطنبول على طلاب 87 جنسية من مختلف دول العالم، لم أكن لأفوت فرصة لقائي بطلاب العلم وأتجاذب معهم أطراف الحديث، اقتربت من مجموعة مكونة من أربعة طلاب من سوريا وباكستان وكندا وغانا.
تتوفر جامعة ابن خلدون على مقومات عديدة جعلت منها مركزًا أكاديميًا مهمًا، تجلت أساسًا هذه المقومات في استقلال الجامعة الفكري، وكذلك التنوع الثقافي الذي يثري الحياة الطلابية والكفاءة العالية للكادر الأكاديمي. كل هذه العوامل جعلت من جامعة ابن خلدون قبلة يحج إليها طلاب العلم من مختلف دول العالم.كان نقاشي مع طالب الجامعة ثريًّا جدًا، شعرت بحماس منقطع النظير واعتراني شعور جامح للرغبة في متابعة دراستي، وأصبحت أفكر في متابعة دراسة الدكتوراه في جامعة بن خلدون نظرًا لكثرة محفزاتها وإغراءاتها. كانت رحلتي إلى الجامعات التركية رحلة في أعماق المعرفة والعلم، استفدت منها كثيرًا وتعرفت من كثب على سر من أسرار نجاح التجربة التركية، وبِت متيقنًا أكثر أنه لا غنى عن المدرسة في بناء الأمم ونهضتها بِناءً قويمًا سديدًا تنطلق منه الأجيال المتعاقبة؛ لتجد مكانها بين الأمم المتطورة والمتقدمة.