
تحتضن مدينة شاولين أقدم معبدٍ للفنون القتالية، يتميز المعبد بخصوصية فريدة، إذ أسسه أحد الرهبان البوذيين، ويدعى سو شولين، لتأهيل الشباب وتزويدهم بمهارات الدفاع عن النفس ودفع الظلم. في هذه الزيارة نتعرف إلى عالم هذا الفن القديم.
تتميز الثقافة الصينية بأشياء عديدة وفنون مختلفة، وفن قتال الكونغ فو من أبرزها، كثير من الناس يعرفون هذا الفن الجميل الذي ظهر منذ أكثر من 4000 سنة في هذه المدرسة التي زرتها، والتي تعد اليوم أقدم مدرسة في الصين كلها.
توجد منطقة “تشاون” قرب العاصمة التاريخية للصين “تزينك تزون”، حدثت فيها قصة تاريخية كانت سببًا في نشأة المدرسة، وقد كانت “تشاون” هدفًا للمتمردين، نشروا الفوضى والاضطرابات في عهد سلالة ” مينغ”؛ فكان لابدّ للناس أن يتعلموا طريقة للدفاع عن أنفسهم ومزارعهم، وظهر معلم يعلم عامة الناس وخاصة المزارعين فنون القتال التي تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم بأسلوب متميز ورزين.
ولما بلغ الخبر إلى الامبراطور سر بذلك، وأرسل إليهم الجنود ليعلموهم فنون القتال، ومنذ ذلك الحين انتشرت رياضة الكونغ فو في كل أرجاء الصين. وأنا على بعد خطوات من مبنى المدرسة القديمة، أثارني شكلها الهندسي، وبعض الرسومات القديمة وتماثيل تعبر عن حركات قتالية تنتمي لهذا الفن القتالي العريق.
بعد دخولي إلى المدرسة، مررت بالساحة الكبيرة التي يجتمع فيها الطالب للتدريب، لم أكن أتوقع منظرًا كهذا في حياتي، أطفال في أعلى درجات الانضباط، يرتدون بذلة موحدة باللون الأحمر، إنهم يتمرنون كالسيف، ويتحركون برشاقة وانسيابية مثل الماء، كنت إخال نفسي في ساحة تدريب عسكري لجنود في غاية التنظيم والانضباط، المنظر يتراءى من بعيد وكأنه حفل استعراضي يكتسي اللون الأحمر، تتعانق فيه القوة مع الهدوء، السرعة مع البطء، الحماس مع السكينة أو بلغة الطب الصيني الين مع اليانغ؛ فيشكل توازنًا رائعًا بين الروح والجسد، بين الأرض والسماء.
يتكون الكونغ فو من عنصرين أساسيين؛ الانضباط العقلي لتحقيق أكبر قدر من التركيز ويسمى بـــــ “الزن”، وأما العنصر الثاني فقبضة اليد لإخراج الطاقة وتركيزها من اليد ويسمونه “التشنك”، والأجمل من هذا أن الكونغ فو الصينية أخالق قبل أن تكون رياضة قتال، ودفاع قبل أن تكون هجومًا، وحتى الهجوم ينبغي أن يحول إلى دفاع في آخر المطاف، هذا ما يقوله المعلمون الصينيون.
التقيت المدرب “آدو”، رحب بي في الصف ودخلنا إلى قاعة التدريب، كان التلاميذ يؤدون حركات استعراضية، وقتال يعبر عن جمال الأداء قبل أن يعبر عن القوة، مشهد جميل يعبر عن حركات قتالية تحاكي حركات الإنسان اليومية، تنسجم مع حركة الطبيعة لكنها تؤدى بطريقة جميلة، إنها تعبر عن فلسفة الكونغ فو التي لا تؤمن بالحدود.
سألت أحد المتدربين: رياضة الكونغ فو مثيرة للاهتمام وتعجبني كثيرًا، لماذا كرست وقتك للكونغ فو؟
المتدرب: عمري 19 عامًا وبدأت الكونغ فو في سن العاشرة، أراد أبي أن أصبح قوياً كالرجال. سألت متدربً آخر: وأنت؟
قال: عمري 17 عامًا وبدأت في العاشرة أيضًا، شاهدت الكثير من أفالم الكونغ فو في صغري وأردت أن أصبح قويًا مثلهم.
قلت وأنا مندهش لهذا الحماس في عيونهم: تعجبني المهارات القتالية، أقدر الكونغ فو حقا، منذ دخلت إلى هذا المكان، اختلفت نظرتي للكونغ فو تمامًا. ما الذي تتعلمونه هنا إلى جانب المهارات القتالية؟ ما المبادئ التي تتعلمونها هنا؟
أجابني المتدرب الأول: مثلًا نصيغ استراتيجية عامة مفادها أن روح الكونغ فو تكمن في عدم الخوف من الصعاب وعدم الاستسلام أبدًا، وأن تقاوم حتى آخر رمق.
أعجبتني حماسة هؤلاء الطلاب وأخلاقهم الرفيعة، ثم قلت لــــ “آدو”: أنا متأكد أنك فخور بطلابك!
أجابني: نعم! بكل تأكيد.
قرأت عن الكونغ فو وعن هذه المدرسة بالذات، وكنت أظنهم يتعلمون تقنيات القتال فقط، لكن بعدما زرت المدرسة اختلفت نظرتي تمامًا، هنا يتعلمون القيم والأخلاق، يتعلمون أن القتال وسيلة للدفاع وليس الهجوم، مدرسة كبيرة حقًا، تحتضن حوالي 47000 ألف طالب.
وسألت آدو: أنت هنا منذ 12 عامًا، أخبرني عن تعليمك، وكيف بدأت الكونغ فو؟
آدو: بالنسبة لي كنت مولعًا بالكونغ فو حين كان عمري 12 عامًا، لذلك كنت آمل دومًا أن يرسلني والدي إلى مدرسة الكونغ فو لتحقيق حلمي.
أضاف آدو: شاركت في عروض كونغ فو محلية ودولية، ويعود الفضل للمعلمين والمدربين خاصتي مما جعلني أحب الكونغ فو أكثر وأكثر، ويعود الفضل للمعلمين وللمدربين خاصتي. اصراري دليل على حبي للكونغ فو، أنا شغوف جدًا وأحب الكونغ فو كثيرًا، لذلك قدمت طلبًا لتدريس الكونغ فو للطلاب.
وأنا أستمع لكلام آدو بشغف أكمل كلامه قائلا: أطلب من طلابي تعلم المبادئ الأخلاقية قبل أن يتعلموا الكونغ فو، روح الكونغ فو الصينية هي جوهر الثقافة الصينية ورمز الصين. يمكن للكونغ فو أن تقوي بنية الشباب، وأن تقوي عقلهم وعزيمتهم وتجعلهم لا يتراجعون قبل إنجاز مهامهم، روح عدم الاستسلام لها تأثير كبير على حياتهم.
سألت آدو: حتى أنا وأراقب عروض الكونغ فو، لاحظت أنه بين كل فقرة وفقرة يوجد هدوء كبير، ومن ثمة يبدأون بالعنف أو الدفاع الخارجي أو المهارات القتالية الخارجية؛ فهذا يدل أنه في الكونغ فو كلما سيطرت على نفسك أكثر، كلما قاتلت بحرفية أكثر.
ثم قلت له: أخبرني عن القيم التي تعلمتها من الكونغ فو؟
آدو: تنقسم روح الكونغ فو إلى قسمين؛ الروح الداخلية والروح الخارجية، الروح الخارجية تمنحك اللياقة البدنية القوية، كما أن طبيعتها الحركية ممتعة ومسلية، أما داخليًا فتمتلك الانسجام الروحي. الانسجام الداخلي هو الجوهر والنفس والروح، والانسجام الخارجي إظهار بواطن الأشخاص لتسليط الضوء على الفرد.
سألته: لماذا يجب على الناس تعلم الكونغ فو؟
آدو: حاليًا بنية الشعب الصيني أكثر ملاءمة لتعلم الكونغ فو، والحصول على اللياقة البدنية. أرجو من محبي الكونغ فو ألا يترددوا في تعلمها وممارستها للحفاظ على هذا الإرث الصيني. هذا الفن القتالي الصيني أكثر من رياضة، إنها فلسفة تؤسس على القيم النبيلة.
وأنا أتجول في باحة المدرسة لفت نظري طالب لم يبلغ الثانية عشرة من عمره، ينظف مكانه الذي يتدرب فيه، يدل على أن هذه المدرسة حقًا متكاملة تعلم الأخالق ونظافة المكان، وروح المسؤولية والاعتماد على النفس حتى في الشؤون اليومية البسيطة، روح الكونغ تقوم على أهداف أخرى غير مادية تسمو بالعقل والروح.
مدرسة “كونغ فو شاولين” ليست فقط مدرسة رياضية، وإنما مزرعة للقيم والانضباط الاجتماعي، وضمان استمرار الهوية الصينية، وهذا ما كان يوصي به “سانتزو” في كتابه فن الحرب، حينما اعتبر الانضباط الاجتماعي المؤازر للجيش الوطني هو أساس استقرار النظام العام الذي بدونه لا تقوم قائمة الدولة.
من خلال تجوالي داخل المدرسة الصينية لاحظت أنه بين آلاف المتدربين في هذه المدارس الصينية هناك فقط ست أو سبع متدربين دوليين (أجانب)، لذلك التقيت مجموعة منهم وطرحت على أحدهم هذا السؤال: ما الذي أتى بك إلى هنا؟
طالب متدرب أجنبي: أتيت هنا لأجد نفسي؛ لأن الكونغ فو أسلوب حياة، يجد الناس ذواتهم وأستمتع بهذا المكان الساحر، ولا أعتقد أنه يمكنك إيجاد أي مكان مثل هذا الذي يوفر لك فرصة معايشة هذه الحضارة.
سألت طالبة أجنبية من نفس المجموعة: ما الذي دفعك لتعلم والتدرب على الكونغ فو؟
أجابت: نشأت على مشاهدة أفلام الكونغ فو والشاولين الأمر الذي أثر كثيرًا على طفولتي، والاَن بعد إنهاء دراستي في الجامعة، لم أجد مكانًا أفضل للذهاب إليه؛ فأنا لن أصبح أكثر شبابًا مع تقدم العمر، ولن تسنح لي الفرصة مجددًا في حياتي، لهذا قررت القدوم إلى هنا.
ثم سألت معلمًا هنديًا يشاركنا الحديث: حدثني قليلًا عن رياضة الكونغ فو؟
أجاب: أنا معلم من الهند، أعلم التلاميذ الفنون القتالية والرياضية، فكانت الكونغ فو إضافة مهمة لي إلى جانب الفنون القتالية الأخرى التي أتقنها، وكما قلت لك سأظل دومًا محبًا لأفلام بروسل لي وجاكي شان. أنا أحب أفلام الأكشن كثيرًا؛ فإن أردت تعلم شيء، عليك الذهاب للأصل؛ فالصين منشأ الكونغ فو ولذلك اخترت الصين.
قلت له: ذلك مثير للاهتمام حقًا، فأنت تعرف أن الهند أنشأت هذا الفن، ولقنت الصينين الكونغ فو -على ما أظن- ومن ثم انقلبت الآية فأصبح الصينيون يعلمون الهنود هذا الفن. التفت إلى إحدى الطالبات التقيتها قبل ذلك وتحدثت معي بعض الكلمات العربية وسألتها: ما رأيك في كل ما قلناه؟ فقد سافرت حول العالم وذهبت للعديد من الأماكن، وقد تحدثت معي ببعض العربية قبل التصوير.
أقدر شجاعتك حقًا، ورغبتك بالعيش في وسط هذه الثقافة، حدثيني عن الثقافة الصينية، ما رأيك بها؟
أجابتني وهي تبسم: للصين سحر خاص كالروح والعقل، أحبها حقًا.
بعدها سألتهم عن سبب غياب العنصر النسوي في هذا المكان، فغالبية الجموع هنا من الرجال والصبيان الصغار.
قالت إحدى الطالبات أعتقد أن المدارس الأخرى تضم الفتيات، وقال طالب آخر مصححًا كلامها “بل المدارس الجديدة”.
سألتهم: هل يعني ذلك أن الصينيات لا ينجذبن نحو رياضة الكنغ فو؟
طالب متدرب: هناك العديد من الفتيات الصينيات الصغيرات اللاتي يتعلمن الكونغ فو هنا.
قلت: أرى أن الحاجز اللغوي كبير هنا في الصين، أتواجهون أيّة صعوبات بهذا الصدد؟
طالبة متدربة: نعم! وفي الوقت نفسه لا؛ فإن عرفت كيفية التواصل معهم لن تواجه المتاعب وستتعلم اللغة بسهولة.
سألت الطالب الهندي: أردت أن تصبح ممثلًا في الهند؟!
أجاب: نعم!
سألته: أخبرني ما العامل المشترك بين البلدين؟
أجاب: في بوليوود العديد من المشاهد الخطيرة، وبالطبع هناك شخص بديل يؤدي تلك المجازفات، لكن ذلك يسلب متعتها؛ فأنا أود تأدية المشاهد الخطيرة بنفسي مثل جاكي تشان مثلًا، كل هذا دفعني لتعلم الفنون القتالية، وكما تعلم فالصين معروفة برياضاتها القتالية.
قلت للطلبة وأنا أودعهم وأشكرهم على هذا الوقت القصير: أود الانضمام إليكم، وأرجو لكم جميعًا حظًا موفقًا، شكرًا.أول عنصر في الكونغ فو هو التواضع للضعيف، والتحكم في العدوانية، وتقدير الأكثر علمًا وخبرةً، والمبادرة لنصرة المظلوم، وحينما نتأمل كل هذه الأخلاق ندرك بسهولة إلى أي حد تلتقي مع أخلاق الإسلام، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قال “إنما بعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاق”.