
وبالقرب من دلهي، وقفت وقفة مهيبة أمام مَعْلمٍ تاريخي فريد، من أعلى منارات العالم الإسلامي، يضم مبانٍ عديدة، ويستقطب جموعًا كبيرة من السياح كل عام؛ إنه “قطب منار”. هذه المنارة الجميلة بناها قطب الدين أيبك، ذو الأصول التركية، أول حاكم من سلالة المماليك الأتراك -أسسوا سلطنة دلهي- وممن أسهموا في نشر الإسلام بشمال الهند. أراد قطب الدين أن يخلد عهده فبنى قطب منار عام 1193 م، غير أنه توفي قبل اكتمال المبنى؛ فأضاف خليفته ثلاثة مستويات أخرى، ثم أضاف فيروز شاه المستوى الخامس والأخير سنة 1368 م. يشمل مختلف المباني والمساجد وغرف التدريس والكثير من المآثر والمعالم المنتشرة على مدار منارة قطب.
امتازت طريقة بناء قطب منار بالدقة والتعقيد، ابتداءً من تصاميم المبنى، وانتهاءً بطريقة تركيب الأحجار على المباني نفسها، من دون استخدام أدوات حديثة ولا إسمنت. أعجبتني هذه الطريقة الفريدة، وأحب أن يكون حضور الإسلام بديعًا ومدهشًا، ليس في الهند وحدها، بل في مختلف بقاع الأرض.
وقفت أمام البوابة، أتأمل بهاء التصميم وروعة التنفيذ، وتساءلت نفسي مرة أخرى: كيف صمد هذا الصرح المركّب حوالي 900 سنة؟ نظرت تارة إلى الزاوية فوقها، وأخرى إلى الرسوم التي تزيِّنها؛ فأجدها سليمة معافاة، صامدة لم تعبث بها العوامل البيئية، بالرغم من توالي السنين الطويلة، وما تحمله من عذابات ومحن.
غالبت نفسي واجتزت البوابة، دلفت إلى حرم المسجد، واستوقفني المنبر وتأملت ذكريات شتى، وتنسلت في ذاكرتي مواقف أهل الخطابة، ورجالات الفكر الإسلامي ودورهم في بناء المجتمعات، لا بدَّ أن مسلمي الهند يطربون لأمثال هؤلاء، يتأثرون بهم وينقادون لهم؛ إنها رسالة المنبر الخالدة.
تخيلت أفواجًا من الناس، وقد أقيمت الصالة، ها هم يكبرون ويخشعون خلف إمامهم، ولانت أجسامهم وقلوبهم فيما بينها، عظمة لا تقل عن هذه المنارة الفريدة. علمت أنهم قرروا بناء منارة ثانية في الجهة الأخرى للمنطقة، كان ذلك سنة 1398، وشرعوا في وضع الأساسات، لكنهم عدلوا عن الفكرة؛ لتظل منارة قطب منار شاهد عيان فريد، وخطيبًا مفوَّهًا وإن لم ينطق؛ فإن من الصمت حكمة، وفيه رسائل ضمنية لا تحملها المجلدات.