
تركيا بلد العجائب، في كل مدينة من مدنها وقراها وجدت الطرائف والنوادر التي لم أعثر عليها في مكان آخر، وفي كل رحلة من رحلاتي في الأعجوبة التركية أزداد متعةً وعلمًا وفائدة.
هذه المرة توجهت إلى مدينة كابادوكيا، مدينة المناطيد والأسرار والزمن السحيق، اجتمعت في هذه البقعة الجغرافية كل المقومات التي تجعل منها سياحية بامتياز. تعد كابادوكيا مدينة أثرية تضاهي أعرق المدن التاريخية في العالم، وقد أُدرِجت على لائحة التراث العالمي التابع لمنظمة الأمم المتحدة (اليونيسكو) في اجتماع اللجنة خلال الدورة التاسعة لعام 1985.
يُعتقد أن كبادوكيا أول مكان استوطنه الإنسان في تركيا، وبذلك تكون هذه المنطقة من أوائل المستوطنات البشرية في العالم. قبل ملايين السنين، كانت كابادوكيا بحيرةً ملحية، لكن تغيرت جغرافيتها بشكل جذري بعد انفجار الجبلين البركانيين أرجييس وحسن غوللوداغ قبل حوالي 60 مليون سنة وسط الأناضول، ودفعت ألسنة اللهب الحجارة من الجبال لتتشكل طبقات ناعمة، تمددت على شكل هضبات صغيرة تآكلت بعفل عوامل التعرية الجيولوجية؛ لتُشكِّل اليوم منطقة جغرافية مثقوبة ومليئة بالهضاب، ما جعلها نادرة ومبهرة وعجيبة في الآن نفسه.
استوطن الإنسان القديم هذه البيئة الجغرافية البكر منذ آلاف السنين، واستطاع أن يبني منازل كهفية بعد اكتشاف الجير مادةً جيدةً للبناء وقابلة للحفر وصالحة للسكن، وشيَّد منها المنازل والمخازن والمعابد.
وغير بعيد عن هذه الأعجوبة الجغرافية، يقع وادي يسمى وادي الحمام، وقد سمي بهذا الاسم نسبة إلى استقرار الحمام فيه منذ مئات السنين، ومن المحتمل أن تربية الحمام في هذه المنطقة تعود إلى الإفادة من مخلفاته في صناعة السماد الطبيعي من أجل محصول زراعي جيد لكروم العنب.
لم أكن لأغادر كابادوكيا دون زيارة مدينة ديرينكويو أو مدينة الجن كما يطلق عليها، مدينة أثرية ضخمة تحت الأرض، أطلق عليها مدينة الجن لأنه في بداية اكتشافها كان يعتقد أن الجن هو الذي بناها، وذلك لغرابة تصميمها، ووجودها في أعماق الأرض برغم ضخامتها، لكن سرعان ما تدخّل علماء الآثار والمؤرخون ليبنوا الحقائق والوقائع المرتبطة بهذا الاكتشاف الأثري المميز. ويبدو أن مدينة ديرينكويو قد بنيت عبر مراحل تاريخية طويلة، بدأت مع الإنسان القديم الذي أتى هاربًا من الحروب الدينية من المناطق المجاورة لمنغوليا والهند، وتحصَّن بهذا الكهف ليحمي نفسه من أعدائه من الآشوريين.
وقد بقيت الكهوف فارغة لبعض القرون، وفي القرن الرابع اكتشف بعض المسيحيين الفارين من الإمبراطورية الرومانية الوثنية المدينة واتخذوها مسكنًا لهم، بعد أن خططوا بذكاء لتوفير كل احتياجاتهم. تم توسيع المدينة من خلال تشييد العديد من الطوابق والمرافق المتنوعة، كمعاصر النبيذ والإسطبلات والأقبية وغرف التخزين والمعابد، كما تتوفر المدينة على بوابات حجرية ثقيلة يبلغ طولها من متر إلى متر ونصف، ويبلغ
وزنها (200 – 500) كيلوغرام، وقد شكّلت هذه البوابات سدًا منيعًا في وجه الأعداء. حسب الدراسات الأثرية والتاريخية، كانت المدينة تستوعب أكثر من 20 ألف شخص مع ماشيتهم، وهو عدد ضخم جدًا يعطي فكرة عن مدى عبقرية هندسة بناء وتصميم المدينة.
من بين الأسماء التي تُلقَّب بها مدينة كابادوكيا “بالد الأحصنة الجميلة”، وتوجهت إلى مزرعة للخيول لأكتشف بنفسي هذا الأمر، واستقبلني السيد أرجيهان صاحب المزرعة. تناقشنا حول الخيول في كابادوكيا وتجاربه المميزة والثرية معها، فأطول رحلة قام بها كانت سبعة أسابيع، كما أنه يوميًا يقطع مسافة خمسين كيلومترًا على ظهر حصانه يجوب به مناطق كابادوكيا الساحرة.
عرفني السيد أرجيهان على العديد من أنواع الأحصنة الموجودة في إسطبلاته، وهي من مناطق مختلفة حول العالم، لكن أكثرها من منطقة الأناضول، وفي الوقت نفسه أبدى إعجابه بالخيول العربية التي تمتاز بالأصالة والذكاء والقوة.
لم أكن لأنهي رحلتي في مزرعة الخيول دون تجربة الركوب على حصان والتمتع بالتجول في كابادوكيا، امتطيت أحد الأحصنة الضخمة البيضاء، ووضعت قبعة تحميني من أشعة الشمس الحارقة متوجهًا لاكتشاف الطبيعة الخلابة والمميزة في كابادوكيا.
من أرض كابادوكيا إلى سمائها، وبعد ثلاثة أيام من الانتظار، حصل القائمون على تنظيم رحلات المناطيد من إدارة الأرصاد الجوية على الموافقة من أجل انطلاق الرحلات، أكثر من 150 منطاد طاروا ذلك اليوم في سماء كبادوكيا، بمجموع أكثر من ثلاثة آلاف شخص، وطبعًا كنت ضمن هؤلاء؛ فما كنت لأفوِّت هذه الفرصة التي انتظرتها على أحر من الجمر.
مع شروق الشمس، بدأت المتعة اللامتناهية، وبعد تجهيز المنطاد ونفخه بالهواء الساخن والاستماع إلى إجراءات السالمة، شرعت رحلة توديع الأرض وهي تبتعد شيئًا فشيئًا، مع نسمات الصباح الباكر المنعشة، منظر سيبقى محفورًا في ذاكرتي لأنني لم أرَ مثله في حياتي كلها.