
الصين مصنع العالم، ربع تجارتها من “كوانزو”، مدينة حافظت على أناقتها كسيدة في العصر الفيكتوري. أحياؤها جميلة. الاختلاف هنا يجعل لكل حي بهويته وملامحه في إطار مدينة لم تبعدها التجارة عن صفاء روحها ونقاء طبيعتها. تتداخل في الصين الطبيعة بالتكنولوجيا أو العكس، لكن لا يجور أحد الأمرين على الآخر، إنها فلسفة التقاء المتناقضات أو هي الثنائية التي تحتاج إلى قراءة عندما يحين وقت ازدحام المدينة ولكن بالازدحام، مدينة تشرح نفسها مثل قصيدة بناؤها حجارة ومعادنها البشر، تؤكد من خلال نهر “لولو” انفتاحها على الآخر تجارة وحضارة.
الصين هي مصنع العالم، دولة تعتمد كثيرًا على التصنيع، وكذلك التجارة التي تقدر بحوالي أربعة تريليون دولار بين الصين والعالم، 25 في المائة من هذه التجارة تنطلق من “كوانزو”.
كنت أتوقع أن كوانزو مدينة عشوائية مزدحمة بالمصانع والعشوائيات، خاصة لما سمعت أنها مدينة المصانع، وعدد سكانها 13 مليون، و44 مليون نسمة على مستوى المحافظة، عدد يساوي سكان الخليج بالكامل، لكن بعدما زرتها تغيرت فكرتي تمامًا، الشارع هنا تُغسل ست مرات باليوم، المناطق الخضراء منتشرة فيها، التخضير في كل مكان، كل حي يختلف عن الآخر، كل شيء مرتب ومنظم، الناس رغم عدد السكان الكبير إلا أنني أشعر وكأنني وحدي وسط شوارع المدينة.
أمام هذه الروعة والترتيب والنظام، كنت حريصًا على استخدام الدراجة في رحلاتي الاستكشافية لأرى تفاصيل المدينة بشكل أفضل، وأنا أتأمل في جمال المدينة تذكرت المثل القائل: “صدق نصف ما ترى، ولا شيء مما تسمع”. هنا حديقة تخترقها المياه الهادئة، الهدوء الساكن وسط الزحام، مكان جميل في قلب “غانزو،” خاصة في الليل، لذلك حرصت على رؤيتها ليلًا، كي أستمتع بهده اللحظة الهادئة. هناك مدن عديدة في العالم تتميز بالجمال والذوق، لكنها تفتقد للروح الاقتصادية، وهناك مدن أخرى قوية اقتصاديا لكنها تفتقد الطابع الجمالي، لكن في غانزو تلتقي جميع هذه العناصر.. القوة والجمال.
“كوبي” أطول برج في الصين، قيل لي المنظر من أعلى هذا البرج يعطينا صورة أشمل لمدينة كوانزو. برج يناطح السحاب، يراقب كل زاوية من مدينة كوانزو، يتحدى الأبراج الأخرى التي تقف مندهشة أمامه، بينما المدينة تعيش مطمئنة هادئة، رغم الزحام إلا أنه لا يوجد ما يدل على هناك زحام، كل مدن الصين تعيش بهذه الطريقة الفريدة، الانسيابية والنظام وفق نظرية “الفانغ شوي”، هذه النظرية لها عدة عناصر تشمل الجبل في الخلفية والسهول الخضراء والماء، وأيضًا الشمس الموجودة في هذا المكان والتي تعطي الحياة بشكل كبير، كما أن تناسق المدينة وجمالها واتساق طرقاتها، يجعل مدينة كوانزو فعلًا مدينة مثالية من ناحية تنظيم الطرقات والمنشآت وهندستها.
لازلت أرى المدينة من أعلى البرج، تظهر متناسقة بشكل كبير، كل مبنى في مكانه المناسب، لا توجد مناطق سكنية منفردة، بل كلها عمارات مرتبة في نظام وفق تصميم فريد، تتراءى أمام عيني دار الأوبرا، والمركز الثقافي والمتحف، كلها موجودة في نقطة مميزة، هذا البرج الذي أطل منه أعطى هوية متكاملة للمدينة.
زهرة المومياء هو شعار مدينة كوانزو، الذي أعطى هوية أكثر لهذه المدينة، أينما ذهبنا نرى هذه الزهرة، فعلًا المدينة من أعلى تظهر مثل حديقة مزهرة، أو رقعة بها قطع وأشكال مرتبة، حتى الغطاء الأخضر يخترق شوارع المدينة في انسجامٍ تامٍ مع الطبيعة.
وصل النظام والترتيب في مدينة كوانزو أقصى درجاته، كل بناية أو مكان في المدينة نجد تعريفًا له في الأرصفة، بل كل شجرة حددوا لها تعريفًا خاصًا، إنه تصميم كامل متكامل، كأن المدينة صممت من طرف فريق واحد، وجاء تصميمها على هذه الطريقة الموحدة.
تتوفر المنطقة الصناعية على مصانع كثيرة تبعد عن المدينة بحوالي 45 كلم من هنا، لكن توجد في المدينة مصانع متفرقة هنا وهناك، مثل مصانع الملابس، وأخرى للإلكترونيات ومصانع الأثاث؛ فتصميمها جعلها مدينة متكاملة حضارية وعصرية.
نزلت من البرج لأقترب من المدينة وأرى تفاصيلها، وجدت أمامي نهر اللولو يقود المدينة التي ترتاح بين ضفافه، لم يكن النهار ينتهي دوره في كوانزو أو الصين، بل كان قبلة للتجار العرب والمسلمين والأوربيين وكذلك من أفريقيا، فهو بوابة طريق الحرير إلى العالم، بل كان يسمى طريق البهار ويصل من هذا الطريق.
يذكر التاريخ أن العرب والمسلمين أول من أطلقوا عليه نهر باللولو؛ نظرًا لموقعه الاستراتيجي ودوره في المبادلات التجارية، ولا يزال دور نهر اللولو قائمًا إلى اليوم، من هنا تخرج الشاحنات والشحنات الكبيرة من هنا إلى العالم بأسره. ركبت دراجتي وأكملت طريقي يرافقني نهر اللولو طول الشارع، وكأنه يشيعني ويخرجني من منطقته بأمان، ثم وصلت إلى مكان فريد؛ إنها محطة القطار المحلي الترام.
عندما نتكلم عن محطة القطار، تخطر في أذهاننا محطة صناعية ومواصلات وضجيج، ولكن المحطة التي وصلت إليها الآن فريدة تمامًا، ترتدي اللون الأخضر من كل جوانبها، حتى القطار يرتدي حلة جميلة تسر الناظرين، منظر جميل لا تمل منه، حتى لو تأخر القطار عن الوصول فأنت مرتاح تستمتع باللحظة.
كوانزو ليلًا كأنها تحتفل، ترقص وسط الأنوار الملونة التي تزين المباني والشوارع، مدينة مختلفة عن كوانزو التي رأيناها نهارًا، الناس مجتمعون هنا للاحتفال بالذكرى الأربعين لتدشين سياسة الانفتاح، وأكثر من استفاد من هذا الانفتاح.. كوانزو! في الغرب يرقصون مع الذئاب في حضرة البراري الموحشة، لكنهم في كوانزو يعلمون الذئاب كيف تنشأ المدن.