
إسطنبول مدينة العراقة والأصالة، تراث المدينة وحضارتها الضاربة في عمق التاريخ، تشهد عليه معالمها التي ما زالت صامدة منذ مئات السنين، في كل زاوية من زوايا المدينة قصص ممتعة وشيقة، هكذا أخذت إسطنبول شهرتها من كونها ثقل حضاري وتاريخي في المنطقة، لكن الشيء الجديد والمبهر أن المدينة ذات مقومات تكنولوجية عالية تضاهي كبرى مدن مراكز العالم في الشرق والغرب.
قررت أن أكتشف جانبًا من جوانب النشاط التكنولوجي التركي، وأن ألج عالم التطور والرقميات من بابه الواسع، فكانت الوجهة إلى كوليكتيف هاوس.
كان “سرتان” الشاب التركي الريادي مرشدي داخل مبنى كولكتيف هاوس، شاب طموح لديه العديد من الابتكارات والأفكار الجديدة. بمجرد دخولي إلى المكان شعرت بكم هائل من الطاقة الإيجابية الصادرة عن شباب مفعمين بالحيوية والنشاط.
كوليكتيف هاوس هو مكان عمل مختلط، مئات من المقاولين والمكاتب الصندوقية للشركات التي تريد أن يكون لديها مكان عمل واسع، وكذلك العديد من الرحالة الرقميين المتجولين في العالم الافتراضي. إنه فضاء واسع للتفكير والحلم والابتكار، بيئة متكاملة تشعر الإنسان بالإلهام والحيوية.
تنشط في هذا المكان الذي يشبه خلية النحل العديد من الشركات الإبداعية، مهندسي الديكور، ومقاولي الإنترنت الذين يعملون على تطوير التطبيقات، أشخاص من عالم الموضة، شركات خدماتية متنوعة الخلفيات.
لم أنسَ إحدى العبارات المكتوبة على جدار المبنى “أنت تصبح كالأشخاص الذين تصادق”، وبالفعل فهذا المكان هو بيئة نشطة للتعلم وتبادل الخبرات؛ فالاحتكاك بالأشخاص الرياديين وأصحاب الابتكارات يُكسب الإنسان خبرات ومعلومات وفيرة.
المكان مفتوح 24 ساعة وسبعة أيام في الأسبوع، يمكن للمستخدمين الاستلقاء والنوم وتناول الطعام، يصفه الريادي سرتان بأنه “أروع مكان يمكن أن تجده في إسطنبول”. مكان نشيط يمكن للإنسان أن يتعلم منه الشيء الكثير، مثل دورات وحلقات نقاشية حول التكنولوجيات الجديدة واستخداماتها مثل تقنية بلوك تشين.
الأمر يشبه جامعةً عصرية بدورات مكثفة دون رسوم تسجيل، وامتحانات ودروس رسمية، المستخدمون والرياديون يتعلمون هنا بالنقاش والدردشة، أسلوب تعليمي غير مباشر لكنه فعال ومهم.
تأجير مكتب متوسط الحجم يكلف تقريبًا ألف دولار، هذا المبلغ يتضمن حرية الوصول إلى مكاتب الاجتماعات وتسهيلات أخرى كاستخدام آلات الطباعة وغيرها. لكن إذا أراد المستخدم ألا يستأجر مكتبًا وأن يكون رحالة، يمكنه الاشتغال في أماكن العمل المختلطة وهذا سيكلفه القليل، ولكن سيضمن للمستخدم الاستمتاع بالتسهيلات والاختلاط أكثر؛ فتمضية الوقت مع المقاولين والرياديين سيقوي من المهارات التواصلية ويفتح آفاقًا كثيرة للتعلم.
تجولت في مكان ينضح بالابتكارات والأفكار الجديدة والطموحة الملهمة، ينتمي سرتان إلى هذه البيئة، له أفكاره وابداعاته التي أذهلتني وجعلتني أستمر في الحوار معه. يؤمن سرتان كثيرًا بمستقبل الذكاء الاصطناعي، ويعده الأكثر رواجًا وتأثيرًا في المجال التكنولوجي والخدماتي، وبما أنه نشيط في مجال التطبيقات على الإنترنت استطاع أن يبتكر تطبيقًا بمثابة مستشار ذي ذكاء اصطناعي، يرتكز على علم الفلك وعلم الأرقام وقراءة الفنجان.
عاش سرتان خارج تركيا عشر سنوات، تعلم فيها الشيء الكثير، لكنه أخبرني أن تركيا -وإسطنبول خصوصًا-تقدِّم له إضافة نوعية في هذا المجال؛ لأن المكان مزيج ساحر بين الشرق والغرب، والحضارة ليست بشيء غريب على إسطنبول؛ فوحدها مدينة عمرها 2000 سنة، ولها جاذبية غريبة تتمتع بطاقة فوضوية تسحب الإنسان إلى الداخل.
داخل هذا العالم الذي ينبض بالأفكار الخلاقة، تعرفت إلى السيد عمر الذي تقاعد منذ ثمانية أعوام؛ فأنشأ أول مجموعة بمجال النظام البيئي في كوليكتيف هاوس، وبادر بتأسيس ما يزيد عن عشرين استثمارًا وشركات جديدة، بالإضافة إلى اشتغاله في مجال الإرشاد العام.
ما يميز السيد عمر طموحه وفكره المتجددين؛ فبعد أن تقاعد لم يقبل العيش متقاعدًا حياةً يغلِّفها الجمود والرتابة، بل قرر مواكبة موجة العصر بالمشاركة في مشاريع استثمارية، والإفادة قدر المكان من الإمكانيات التكنولوجية.
كولكتيف هاوس مكان منفتح على العالم، مساير للحضارة الغربية في انتاجاتها وتقنياتها ومشاريعها، فقد أخبرني السيد عمر أنه من المقرر أن يأتي وكلاء من شركة غوغل من سان فرانسيكيو الأمريكية.
لا شك أن هذا الفضاء يعج بالشباب الحامل للأفكار الجديدة والناجعة، قابلت شابًا يدعى سوانت ينحدر من مدينة أضنة الواقعة في الجنوب التركي، وهي مدينة معروفة بالفلاحة، لدى سوانت مشروع اسمه تالامار، وهو مشروع زراعي اجتماعي يتألف من ثلاثة مالكين من المزارعين، يقوم المشروع على زيادة استخدام الآلات والتكنولوجيا في عمليات الزراعة، ومتابعة الفلاحين وإرشادهم أثناء الحرث أو الحصاد، ومثل هذه المشاريع سيكون لها بطبيعة الحال انعكاس إيجابي على الفرد والدولة على حدٍ سواء.
واجهت في آخر رحلتي داخل هذا الصرح الزاخر بالطاقة والحيوية، ياسمين وهي شابة تركية من المؤسسين الشركاء لكولكتيف هاوس، ومن المهتمين بالتسويق والعلامات التجارية، تسافر ياسمين كثيرًا من أجل التعلم وتبادل الخبرات، لها مشاريع كثيرة لنقل هذه التجربة إلى باقي المدن التركية، ومن ثَمَّ إلى خارج تركيا. تعتبر ياسمين أن التواجد في إسطنبول قلب تركيا، فرصة مميزة وفريدة من نوعها، إذ يوجد الكثير من الفرص والمشاريع الجديدة في المجالات كافة، والتي تحتاج إلى أفكار وابتكارات عصرية.
ما جذبني إلى هذا المكان وشد انتباهي مدى تلاقح الأفكار والتجارب بين الشركات العملاقة والرائدة مع نظيرتها الصغيرة ناشئة، الكل اجتمع على طاولات النقاش لتبادل المعارف النصائح والابتكارات.
بدا لي واضحًا بعد رحلتي لكوليكتيف هاوس، أن إسطنبول ليست مدينة تاريخية فقط بقصورها البهية ومساجدها الفخمة وأسوارها العالية، بل لإسطنبول وجه حداثة ساطع، إذ تلتقي الأفكار الخلاقة والمبدعة لتنطلق نحو مستقبل واعد على يد شباب مفعم بالنشاط والحيوية، يمتلك كل الأدوات اللازمة للقيام بنهضة شاملة تجتمع فيها حداثة الغرب وقيم الشرق.