
زرت الهند في غمرة الصيف، الحرارة مرتفعة، غير أنها برغم قساوتها تشجع على نشاط فريد وممتع؛ إنه الاستمتاع بالمياه الباردة -داخل أحد المنتجعات الصحية الفخمة- وقررت خوض التجربة؛ إنه منتجع صحي فريد من نوعه، يقع وسط بحيرة بولاية كيرلا، تحتضن عادةً عشرات الثدييَّات العملاقة، وتعلمت كيف يقدِّم المدلكون أفضل خدمة لعالج جلد الفيلة.
في كيرلا، بإمكان الفيلة الاستمتاع بحمام مميز، تتلقى العلاجات الهامة بما فيها التدليك والحمامات، والطعام المغذي؛ فقد أنشأت مجموعة من الهنود أول منتجع صحِّيّ في العالم مخصَّص للفيلة، وتقدَّم لهم وجبات خفيفة لتساعدهم على تقبل جلسات التدليك.
ويقال إن رواد المنتجع من الأثرياء، بلغ بهم تقديس فيلتهم إلى درجة توفير هذه الخدمة المميزة، ورعايتها رعاية خاصة. يستوعب المنتجع نحو 59 فيلًا في وقت واحد، ويمكن رؤية الفيلة تنغمس في المتعة على أيدي مدلِّكين خبراء محليين كرسوا أنفسهم لخدمة الفيلة، ينظفونها ويدلِّكون أجسامها.
ومن المعلومات الهامة التي اكتشفتها، وأنا أنقب في أغوار هذه الحمامات العجيبة، وهذا المركز الصديق للفيلة، ارتباطه بمعتقداتٍ محلية؛ فمن المعروف أن الفيلة لعبت -قديمًا- دورًا رئيسًا في مواكب كيرلا الأسطورية، وتعلمت كذلك أنه لا توجد مهمة مستحيلة على الهنود، أو عمل لا يستطيعون إنجازه.
كيرلا ولاية استوائية جميلة، بفضل طبيعتها الخلابة ومزارع الشاي المنتشرة بها، وتاريخها العريق أيضًا فضلًا عن تقاليد سكانها، وللفيل في المجتمع الهندي مكانة خاصة، حاولت التعرف أكثر على الثقافة الهندية المرتبطة بهذا الحيوان المتفرد، وأن أقتحم كهف أسراره، وأسأل وأحاور بعضهم علَّني أعثر على سر من الأسرار الكبيرة والغريبة.
حاورت أحد السكان المحليين، ويسمى “ماهيش” محاوِلًا العثور على ما في ذهني من أسئلة، باحثًا عن إجابات قد لا تكون في الكتب، أو لم يسبق إليها غيري، على طريقة المثل القائل “يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر”، وأفادني ماهيش إفادات ضافية وأمدني بمعلومات وافية، حول ديانات الهند وتقديس الحيوانات وخاصة الفيلة.
إن المرء ليَعجب أشدّ العجب من كثرة آلهة الهنود، تزدحم عندهم على نحوٍ غير مألوف، ولو أحصينا أسماءها لاقتضى منا ذلك مائة مجلد؛ فطائفة منهم عبدوا الأجرام السماوية مثل الشمس، وطائفة اتخذت التمائم آلهة، وكثير منهم قدسوا حيوانات الحقل أو طيور السَّماء.
وحسب الثقافة الهندية، يعدّ الفيل الإله غانيشا نفسه، وابن الإله شيفا، وفيه تتجسّد طبيعة الإنسان الحيوانية. لا يبتعد الشأن بالنسبة للقردة والأفاعي، بينما التي نراها مصدر رعب، إذ بكثير من الطوائف الهندية تقيم سنويًّا
حفلًا دينيًا تكريمًا للأفاعي، يقدّمون خلاله العطايا من اللبن والموز لأفاعي الناجا عند مداخل جحورها، ويشيِّدون معابدًا لتمجيد الأفاعي.
ترمز الفيلة للوئام الديني، ويحتضن ساحل كيرلا الجنوبي أكبر عدد لفيلة المهرجانات؛ فيستخدم الهنود عروض الفيل في المهرجانات الدينية، مثل يورام من الثقافة الهندوسية. وتعد الهند معقل الديانة الهندوسية، يتوافد أتباعها من مختلف أنحاء العالم للاحتفال بميلاد الإله رأس الفيل “غانيشا”. خلال الاحتفالات يصطف مئات الهندوس أمام مجسم الإله غانيشا الضخم، وتتضمن فعاليات المهرجان الصالة وشراء تمثال غانيشا، الملوّن والمزخرّف على شكل مربّع، ويرتدي الوافدون الملابس الهندية التقليدية، يشترون الحلويات والزهور وينتهي المهرجان بالغطس في الماء.
لأفهم هذه الظاهر أكثر، استعنت بابن بطوطة (1304 – 1377) في تفسير شهادة “ماهيش” القائل إن الفيلة استخدمت في مساجد المسلمين، وكنائس النصارى، رمزًا للوئام الديني والتسامح المذهبي؛ فقد ذكر الرحالة
المغربي، أن المسلمين أخذوا من الهندوس مسألة مشاركة الفيلة في الاحتفالات الدينية، وكانوا يزينونها بالحرير والذهب والجواهر، إذ يخصص ستة عشر منها للسلطان، تتقدّم الموكب لا يركبها أحد.
أثناء احتفالات الزواج، عبَّرت الفيلة عن وحدة الهندوس والمسلمين؛ فيركب العريس فيلًا مزيَّنًا، وينزل قرب بيت عروسه مرتديا عمامة خاصة. في الغالب، تستخدم الفيلة لمهرجانات المعابد والمهرجانات الموسمية، وبعض المسلمين يستخدمونها للنذور الدينية في بعض المساجد، ويصنع صنيعهم بعض المسيحيين في الكنائس أثناء أعيادهم.
الدَبَّابة الأولى في العالم
خاضت الفيلة الهندية حروبًا ومعارك كثيرة، وأدت أدوارًا رئيسة في حسم كثير من المواجهات، استُعمِل الفيل بمثابة دبابة وحصن للمقاتلين، يركبونه ويتحصنون به ويتخذون دِرعًا. مع ظهور البارود، تراجعت الفيلة إلى الصفوف الخلفية؛ لتؤدي أدوارًا هامة أخرى في الأراضي الوعرة؛ فنقلت الأسلحة والجنود والتجهيزات. ويبقى السؤال: هل كانت التجارة فاتحة قلوب الهنود للإسلام؟
ختمت زيارتي الممتعة لهذا المنتجع بركوب فيل أنيق، مستحضِرًا كل ما تجمَّع في ذهني من هالةٍ عقائدية تجاه هذا الحيوان الغريب.