
منذ بدأ الصينيون كتابة لغتهم عموديًا ثم أفقيًا على ورق البانغو، وهم يفسرون معنى التجانس بين التاريخ والطبيعة بوجهة النظر الصينية، وبينوا للحضارات الأخرى أهمية الماء للتوابل والحكايات واللون الأخضر، كي تقرأ الدنيا أسطورة بلاد العواصم ببساطتها وغموضها، ولا يعين على فهمها غير إدراك قوة الطبيعة، عبر قنواتها وحجارتها وصمت عشبها، وهي تفتح للإنسان أبواب الحكمة.
وأنا أكمل طريقي بدراجة هوائية تسابق الريح، لم أكن أتوقع أن الصين بهذه النظافة التامة، يا لها من نظافة مبهرة، تتجلى في شوارعها المتناسقة، والعجيب هو انتشار الزراعة والخضرة في كل مكان، وليس راءٍ كمن سمع. المدينة المميزة والاستثنائية “هانغزو” لا تشبه إلا نفسها، أصنفها ضمن أجمل خمس مدن زرتها في حياتي، بتاريخها العريق، ونظافتها وأهلها، والأجمل من هذا طبيعة المدينة الساحرة، وهو خير مثال لتجانس التاريخ مع الطبيعة بروح صينية. عجائب المدينة الساحرة لا تنتهي، كنت أعتقد أن الأمطار هطلت في هذا الوقت، لوجود آثار المياه في شوارع المدينة، لكني اكتشفت أن هذا ليس مطرًا، بل تعبير عن إصرار الحكومة على إبقاء شوارع المدينة وأرصفتها نظيفة، النظافة في “هانغزو” شيء لا يوصف.
أكملت طريقي وأنا أعبر شوارع هانغزو وقت الذروة، لم أشعر ولو للحظة أن المدينة مزدحمة، ولم أشعر بمرور الناس إطلاقًا، أشعر كأنني وحدي في الشارع؛ فالشعب الصيني شعب منظم بشكل كبير، الكل يسير بطريقة سَلِسة ومنظمة في هانغزو، بل في الصين كلها، الدراجات الهوائية، الدراجات النارية، وحتى السيارات والمواصلات العامة.
يقول سبحانه وتعالى “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”، يا لها من نعمة عظيمة من الله سبحانه، نعمة الاختلاف والتنوع، هذا الاختلاف بين الحضارات والشعوب وتنوع لغاتهم وأعراقهم وثقافتهم، يجعلنا نكتشف السر العجيب والحكمة من هذا التنوع ونتمتع به؛ فهو ما أنتج لنا الثراء والتنوع في كل شيء.
أينما تذهب في الصين، يحاصرك التاريخ، أمام مرأى بصري قناة الصين الكبيرة أعرق قناة على وجه الأرض، بنيت في القرن الخامس قبل الميلاد، تعتبر أطول قناة في العالم، يصل طولها إلى 1794 كيلومترًا، تجمع بين عراقة بيجين وسحر هانغزو، إنها صلة وصل بين مدينتين كبيرتين. يجمع بين ضفتيها جسر مميز بني في سنة 1888 .
ترتاح على ضفاف القناة قرية مميزة، في عمر القناة، زادتها مياه القناة جمالًا، ما أثارني فيها كثرة المياه، وأينما وجد الماء وجدت الحضارة، وكما قال سبحانه وتعالى “وجعلنا من الماءِ كلَّ شيءٍ حي”، إنها مدينة كاملة تنبض بالحياة. الأسواق والمحلات الموجودة هنا، أغلبها أيضًا لها عمر القناة نفسها، وحتى ملاكها معظمهم توارثوها من أجدادهم.