
حين تنشر أشجار الشاي خضرة أوراقها وعطر مواسمها بين أحضان الجبال الراسية على حواف الزمن، لا تكون المسألة مجرد ورقة شاي ترتاح في كوب الفيلسوف، بل تصبح أبجدية جذور تؤسس لحضارة نهضت على تقاسيم الماء، تستعير من الجبال شموخ الطبيعة، وتهدي إلى الإنسان كنوزها الخضراء، فحكاية الشاي ما هي إلا حكاية المعرفة.
في جنوب الصين، وعلى أرض ”هانغزو“ الساحرة، وتحديدًا على سفوح جبالها، تكمن عراقة الحياة الصينية في شجرة تمتد جذور قصتها إلى زمن بعيد. ما أبدع هذا المكان الذي تخترقه هذه المزارع المهيبة، فهي نفسها التي ظهر فيها الشاي لأول مرة منذ أكثر من 5 آلاف سنة مضت، فالشاي في الصين ليس مشروبًا عاديًا، بل يمثل ثقافة شعب راسخ في التاريخ، وقيما لا تبلى مع الزمن.
كنت أتأمل المنظر الفريد لمزارع الشاي وهي تسر العين والقلب وأنا أتساءل في نفسي ”كيف لي أن أترك مكانًا بهذا الجمال والجلال؟“.
الشاي -كما يقول الصينيون القدامى- حكاية بدأت بورقة سقطت بالصدفة في كأس ماء ساخن كان يشربه أحد الأباطرة قبل الميلاد بثلاثة قرون، لم يخطر ببال الإمبراطور الصيني ”لوهي“ أن ورقة الشاي تلك ستكون مقدمة لقصة شعبية صينية ترويها شعوب الأرض كافة.
يتم إعداد أجود أنواع الشاي وأغناها بعناية بالغة في هذا المكان الجميل، وفي كل عام وتحديداً يوم 20 من شهر مارس/آذار يتوافد المزارعون إلى حقول الشاي ليقطفوا النخب الأول من أوراقه، ويصل سعر الكيلوغرام الواحد منه إلى آلاف الدولارات.
خلال القرن الثاني عشر تغير تاريخ الشاي بشكل كبير، تزامنًا مع زيارة الإمبراطور ”شين نونغ“ لإحدى مزارع القرى القريبة من هانغزو، حيث استقبله أحد الفلاحين وأهداه كيسًا قائلً له ”هذه هدية متواضعة من القرية إلى مقامكم الكريم يا معالي الإمبراطور“. وعندما رجع الإمبراطور إلى قصره وجد أمه طريحة الفراش، وأخبرها أنه حصل على عشبة يقال إن لها كثيرًا من الفوائد، ثم أعطاها إياها على أمل أن تشفى، فأخذت أمه العشبة وشربتها على شكل مشروب شاي، وشفيت من الكأس الأولى بسبب هذه العشبة الساحرة، وبذلك تحول الشاي إلى مشروب الطبقة الحاكمة والنخبة، بعدما كان متداولً بين الفقراء والفلاحين وحدهم، وابتداءً من هذا التاريخ، أصبح الشاي الأخضر جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الصينية.