مومباي.. الكورنيش والميناء
gateway-of-india-muwmbai-2021-09-01-00-35-44-utc
الحمَام يستوطن المنطقة منذ مئات السنين.

بدأت الجولة في مومباي من الكورنيش الجميل والفسيح، وتوقفت عند مسجدها العظيم، كان مسجدا يُشعُّ بياضاً ناصعاً كالثلج، وعلى بعد أمتار منه، استهوتني رائحة التراب المنبعث من المدينة، وتملَّكني الشغف لأطَّلع على تاريخها الضَّارب في القدم، الذي تعكسه هذه المنحوتات البديعة، والمصنوعات التقليدية، والأباجورات القديمة، التي مازالت تملء الأسواق الشعبية، وتشهد إقبالا كبيرا من قبل السياح.

كانت الرحلة إلى مومباي طويلة وشاقة، لكن روعة المكان أنستني الإرهاق والتعب الذي كنت أشعر به، فمغامراتها التي لا تُنسى ضخت الأدرينالين في جسدي، وجعلتني أطلق العنان لنفسي لأستمتع بما أشعر به وأشاهده بأقصى درجات الاستمتاع، فالطعام، والرائحة، والطقس، والمزارات، والأشخاص، وكل شيء هنا بدا مختلفا تماما.

وعلى نغمات الدف الهندي التقليدي، والأغاني الهندية الشاعرية والجميلة، انطلقت رحلتي. كان أول ما شد انتباهي ضخامة النُّصب الكنسي الماثل وسط العاصمة الهندية مومباي، أما عراقة الثقافة وبساطة الناس، وما أفرزه ذلك من مزيج فريد بين حضارة متجذرة، وأصالة راسخة، وحداثة مبتكرة، فقد دفعني بشغف لا مثيل له إلى الإقبال على استكشاف واحدة من أعرق البلدان وأغربها، إنها الهند، ذلك المزيج العجيب من الثقافات والديانات المتعايشة بسلام.

في البداية غمرتني الحيرة، فمعالم الهند كثيرة ويصعب عدّها أو حصرها، لكن بعد طول تفكير قررت أن تكون البداية من بوابة الهند الضخمة، لذلك جمعت حقيبتي الخفيفة على عجل، فلم يكن فيها إلا بعض الوثائق المهمة، وهويتي الشخصية، وقنينة ماء.

طقس الهند كان آنذاك حارا نسبياً، لكن عندما بدأت المشي بين شوارعها الجميلة، أخذت المسافات الطويلة تقصر أمامي، وهانت كل المصاعب التي واجهتها، واستغرقتُ في زحمة من نوع مختلف هذه المرة، وفقد كانت المعالم الثقافية تأسرني طوال تلك الرحلة الطويلة، فتارة أتوقف أمام المعالم والجدران لألتقط صورًا للذكرى، وأطرح أسئلة واستفسارات، وتارة أخرى أقف لبُرهة حتى أتأمل وجوه المارة والعابرين.

لم أشعر خلال هذه الرحلة بوطأة الوقت، لكنني توقفت فجأة أمام عظمة بوابة الهند الكبيرة المبنية من البازلت الأصفر والخرسانة المسلحة، إنها مجَّسم خرساني ضخم، بُنيت بنوع نادر من الإسمنت، وقد بدت لي من الوهلة الأولى صرحا تاريخيا لا مثيل له، وتجسيدا مبهرا لإبداع الإنسان الهندي البسيط، وتعبيرا عن قوته في الآن نفسه، إذ يبلغ قُطر القبة المركزية فيه 15 مترا، وارتفاعها 62 مترا فوق الأرض، وتتكون البوابة من أربعة أبراج بتصميم داخلي مميز، وبسبب ضخامة البنيان فقد أعيد تخطيط الميناء بأكمله. إنها تجسيد عميق لأرض الهند، موطن العجائب والغرائب المذهلة، وأرض الأفكار والمعتقدات المتنوعة، وبلد الأديان والمذاهب المختلفة.

هنا عندما وقفت أمام ذلك البناء المبهر بادرت بسرعة لسحب الكاميرا الصغيرة من أغراضي، وشرعت في التقاط ما استطعت من صور للموقع والأشخاص المنتشرين حوله، فجمال البناء وفخامته التي أسرت ألباب الناس منذ آلاف السنين أثارا فضولي، والمبنى أصبح قِبلة للزوار من الهند وخارجها، وبات مَحجّا للناس من كل صوب وحدب، فمن لم يزر بوابة الهند، فإنه لم يزر الهند، ولم يكتشف شيئا من تاريخها التليد.

أما هذا الحمَام الذي يستوطن المنطقة منذ مئات السنين، وكأنه حارسها الأزلي، فإنه دليل على عبقرية فريدة في تصميم القبة التاريخية لبوابة الهند، وعلى تمُّيزها وتفوقها على نظائرها، وهو تميز وتفوق عكسا إتقان الصانع الهندي، وإبداعه في صنعته. فبيدين مخضبتين بالحناء، وبنقوش تقليدية مبهرة، وأكاليل زهور منعشة، وحليّ مصنوع يدويا، تتزين نساء الهند لتبني حضارة هي من أقدم الحضارات التي شهدتها البشرية.

في وبنظرة سريعة على أسواق مومباي المزدحمة بالبضائع والباعة والمشترين، تدرك أن خطوط التجارة التي ربطت أطراف العالم كانت تمر عبر هذه الأسواق العريقة، وأن مومباي التي تعد من أكثر المدن الهندية شعبية وجذبًا للسياح، هي تجسيد حّي لعراقة الحضارة الهندية وتاريخها المجيد، لذلك فإن الزائر لها لا يمل من التجوال في أنحائها منبهرا بمعالمها العظيمة.