الأطايب التركية.. تاريخ متجسّد!
Ali Bin Towar Network
في البازار الكبير متاهة كبرى لا حدود لها.

في إحدى جولاتي في إسطنبول التركية، وبالتحديد في شارع محمود باشا، أرشدني أحدهم إلى مكان مذهل، وهو أعظم مكان يمكن أن يتناول فيه الإنسان راحة الحلقوم. كان محل تشرف عليه نفس العائلة منذ سنة 1777، كنت جد متحمس لتذوق قطعة من التاريخ. فعلًا يتجسد الماضي داخل هذا المحل.

ذهبت مع صاحبة المحل في رحلة تاريخية رهيبة؛ فوالد جدها مؤسس هذا العمل، اشترى المتجر وبدأ كل شيء من الصفر، نفس المتجر ونفس الأدوات المستخدمة مازالت صامدة وشاهدة على حقبة تاريخية مميزة.

أخذني الفضول لمعرفة ظروف تأسيس المحل، ليس متجرًا فقط بل هو قصة نجاح فريدة من نوعها، وكذلك معلم تراثي ينبض بعبق التاريخ.

كان الجد المؤسس يعيش في كاستامونو، وهي مقاطعة صغيرة في البحر الأسود، وقدم إلى إسطنبول سنة 1777، وأسس هذا المتجر.

وحسب الرواية التاريخية الممتعة التي كانت تسردها لي حفيدة المؤسس وصاحبة المتجر، كان السلطان يحبالأطايب، وعيَّن الجد المؤسس رئيس الحلوانيين في القصر العثماني.. كانت تلك نقطة التحول، فبتلك الترقية

تمكن من تمثيل الإمبراطورية العثمانية في أوروبا وأمريكا؛ فقد كان يمثل السلطان والإمبراطورية، ويعرضالأطايب التركية في المعارض الدولية حول العالم.

تحدثت إلى ابنة صاحبة المتجر والتي تمثل الجيل السادس، أحسست بمدى حماس ومسؤولية الطفلة رغم صغر سنها، لكنها تبدو أنها ستكون قادرة على إدارة وتسيير المتجر فهي واعية بالثقل التاريخي والتجاري المهم للمتجر.

في نفس هذا البازار، تباع حلوى الحلقوم أو الملبن، وهي نوع من الحلويات الطريّة والمطاطيّة الشهيّة ومكوّناتها الأساسيّة تتألف من الهلام والسكّر والنشا، وهي تركية الأصل والمنشأ.

في كل مكان زرته في تركيا، كنت أبحث عن حلوى الحلقوم هذه؛ فهي حلوة لذيذة ومنوعة وذات أشكال وأحجام مختلفة، إذ تساءلت عن مكوناتها، ممَّ صنعت؟ كيف تصنع؟!

وفي هذا الحوار ربما تتحقق بغيتي في إيجاد إجابات على أسئلتي:
علي: مرحبًا!
هاندا: أهلًا!
علي: هاندا؟!
هاندا: أجل!
علي: آه، أخيرًا تحققت أمنيتي بلقائك، كنت أبحث عنك، كيف الحال؟
هاندا: أنا بخير، كيف حالك؟ من أين أتيت؟
علي: أنا من قطر.
هاندا: جميل جدًا.
علي: هل تعرفين قطر؟
هاندا: بالطبع.
علي: بالطبع أنت من تركيا، لا بد أنك تعرفين قطر.
هاندا: نعم أعرف.
علي: كم أنا متحمس لتذوق قطعة من التاريخ.
هاندا: أنت في المكان الصحيح إذن.
علي: والد جدك هو المؤسس.
هاندا: نعم! أسس العمل سنة 1777 .
علي: رائع!
هاندا: هذا المتجر أصلي، بدأ كل شيء هنا.
علي: المتجر نفسه والموقع ذاته؟!
هاندا: أجل! المتجر نفسه، الفرن نفسه، والموقع نفسه، حتى الأدوات المعروضة هناك أصلية.
علي: أرجوكِ أريني!
هاندا: كل شيءٍ أصلي.
علي: أتعلمين؟ هذه الحلوة ليست مشهورة في تركيا فحسب، إنما حول العالم أجمع، أريد أن أعرف المزيد عنها. كما تعرفين، يوجد الكثير منها وبنكهات مختلفة.
هاندا: طبعًا، يمكنك أن تتذوق.
علي: أجل! أرجوكِ أخبريني المزيد عن حلوى الحلقوم.
هاندا: هذه وصفة قديمة جدًا، وقد عمل والد جدي كثيرًا عليها؛ فأدخل بعض الابتكارات عليها، استخدم النشا بدلًا من الطحين، والآن لدينا أنواع مختلفة، ننتج اليوم أكثر من 20 صنفًا من الأطايب التركية. هذه وصفة بسيطة جدًا، عبارة عن نشا وماء وسكر مما يحبه المرء.
علي: أنا آسف! لا أستطيع المقاومة، عليِّ أن أتذوق.
هاندا: لنفعل ذلك.
علي: إنها مثالية!
هاندا: هذا القوام أصلي. يجب أن تشعر أسنانك بالمقاومة، وفي الوقت عينه ينبغي أن تكون قادرًا على قضم المنتج بشكل نظيف، هكذا نفسرها.
علي: أجل، أفهم ما تقولينه.
هاندا: لا يجب أن تكون لزجة أو لينة كثيرًا، ومن ثَمَّ ليس ذلك القوام الصحيح، هذه الوصفة الأصلية، نضع بعض الفستق فيها ومستكة وأوراق الورد، وننتج أنواعًا جديدة كل عام.
علي: كيف تجري عملية الطهي؟
هاندا: تطهى عندما يصبح قوامها ملائم، نسكبها في صوانٍ، وتبقى مدة يوم قبل أن تقطع إلى مكعبات، ولدينا صنف آخر، هذا الصنف الوردي اللون، يصنع يدويًا حتى اليوم، والخيط يوضع على خيط ويتم تغميسه في مزيج من الأطايب التركية، ثم تعلق مثل النقانق قبل أن تقطع يدويًا، نحاول الحفاظ على وصفاتنا الأصلية كما أعدها والد جدي.
علي: هل تعرفين زهرة التوليب؟
هاندا: أجل!
علي: عندما يقول أحدهم تركيا، تتبادر إلى ذهني صورة التوليب وصورة الأطايب التركية، وسأتذكر دائمًا والدجدك؛ فهو في قلبي، سأتذكره دومًا.
هاندا: وفي قلبي أيضًا.
علي: إذن أخبريني عن حياة جدك.
هاندا: كان يعيش في مقاطعة صغيرة في البحر الأسود تدعى كاستامودو، قدم إلى إسطنبول سنة 1777 وأسسهذا المتجر، وقتها كان الموقع هنا في قلب المدينة، بالقرب من القصر ومن الأمكنة التي يشتري منها الأشخاص المهمون، كان مكانًا استراتيجيًا.
علي: كان ذلك في زمن الإمبراطورية العثمانية؟
هاندا: نعم! عام 1777، ثم بدأ بإنتاج الأطايب التركية، هنا في هذا المتجر، وكان يسكن في الطابق العلوي.
علي: هل كانت الأطايب رائجة حينئذ؟
هاندا: لا نعلم! هي مذكورة في بعض الكتب القديمة، لكنها زادت رواجًا وشعبيةً، وكان السلطان يحب الأطايب وعيَّن والد جدي رئيس الحلويين في القصر العثماني.
علي: يا للروعة!
هاندا: وكانت تلك اللحظة بداية التحول؛ فكانت تلك ترقية له لأنه مع تعيينه رئيسًا للحلوانيين، تمكَّن من تمثيل الإمبراطورية العثمانية في الخارج، في أوروبا وأمريكا، كان يمثل السلطان والامبراطورية ويعرض الأطايب التركية في المعارض الدولية حول العالم، لدينا جميع الشهادات التي حصدها سنة 1897 و1881 في فيينا، في كولونيا وغيرهما.
علي: إذن كان السلطان يستخدم الأطايب كهدية؟
هاندا: نعم، وكان رمزًا للسلطنة العثمانية في ذلك الوقت كذلك. كان ذلك منتجنا، انطلاقًا من هنا، من هذا المكان الصغير، من ذاك الفرن. هذه نسخة عن اللوحة، يظهر والد جدي في المتجر أمام الفرن، ينتج ويبيع الحلقوم التركي.
علي: في أي زاوية من المتجر أخذت هذه الصورة؟
هاندا: هنا! في هذا المكان.
علي: في هذا المكان؟ هنا؟!
هاندا: ولدينا الحلقوم على شكل نقانق معلق هنا، هذا المشهد نفسه هنا. هذه شهادة تعيين السلطان لوالد جدي رئيسًا للحلوانيين في القصر العثماني، من السلطان عبد الحميد الثاني.
علي: عبد الحميد الثاني؟! أتعلمين، هذا أمر ظريف، سأمثل في برنامجه. أتسمعين ببرنامج عبد الحميد الثاني؟
هاندا: لا!
علي: ألم تشاهدي البرنامج؟ ستشاهدينني في البرنامج، يا لها من صدفة! سأتذكر أن عبد الحميد أرسل هذه الرسالة إلى جدّك؟
هاندا: أجل! عيّنه السلطان؛ فهذه الشهادة والميدالية كانت له كونه رئيس الحلوانيين في القصر العثماني، وقد تجددت مع كل سلطان بعد ذلك.
علي: يا للعجب!
هاندا: مع الابن والحفيد.
علي: يمكننا فعلًا أن نشعر بالتاريخ من هنا، خاصة مع هذه اللوحة؛ فهذا الجزء يعطيني شعورًا ما.
هاندا: تشعر بالتاريخ؟
علي: نعم! تمامًا، أتعلمين؟ باللغة العربية نسميها حلوى الحلقوم.
هاندا: أجل! فيما يخص كلمة الحلقوم؛ فإن الأطايب التركية كانت تسمى في البداية راحة الحلقوم.
علي: نعم راحة الحلقوم، نسبة إلى الحلق.
هاندا: أجل! لأنها تهدئ الحلق، نظرًا للشعور الجميل الذي تحس به عندما تبتلعها، لكن بما أن الاسم كان معقدًا تم تغييره لراحة لقوم ثم صار لقوم، هذا ما نسميه اليوم لقوم مشتقة من كلمة حلقوم.
علي: العائلة مشاركة بكاملها اليوم في هذا العمل التجاري؟
هاندا: إلى حدٍ ما نعم! أنا الآن أنتمي إلى الجيل الخامس وابنتي من الجيل السادس.
علي: الجيل السادس، أمر مدهش!
هاندا: نعم! أصبح الأمر في دمنا الآن.

وهنا، خاطبت ابنة هاندا، وقلت لها: تعالي وانضمّي إلينا، إذا كنت تحرصين على نقل هذا التراث إلى الأجيال المقبلة؟
ابنة هاندا: نعم! هذا ما أنوي القيام به.
علي: يجب أن تشعري بالفخر أن جد جدك توصّل إلى إعداد هذه الحلوى.
ابنة هاندا: حسنًا! أنا سعيدة لسماعي ذلك، وكما قلت، أنا فخورة، ولكنني أشعر في الوقت عينه بالضغط، لأني أحس بالمسؤولية إزاء عائلتي وإزاء بلدي كذلك، لأنه تاريخ كما قلت؛ فنحن أقدم مؤسسة عائلية في تركية، وهذا أمر هام يجب أن نهتم به، هو أمر ثقيل، أشعر بثقله على كتفي، لكنني جديدة في مجال العمل هذا وآمل أن أحسن العمل.
علي: بينما أنت تحت جناح والدتك، أعتقد أنك سوف تحققين الكثير، لا تشعري بالضغط، ستكونين على ما يرام.
ابنة هاندا: نعم، أعرف ذلك.
هاندا: هذه الصورة من القاهرة؛ فقد كان لدينا فروع في مصر، أترى هذه الصورة؟!
علي: آه! الحاج بكر الحلواني.
هاندا: نعم، كان لدينا فرعان في القاهرة وفي الإسكندرية، ثم مع تغيُّر السياسة، توجَّب علينا إغلاقهما.
علي: كل الحلويات التي نراها في قطر، في الخليج، في الوطن العربي وفي العالم كلها خرجت من هذا الفرن. انظروا إلى هذا!
هاندا: هل تود أن تقطعها بنفسك؟
علي: طبعًا أود ذلك.
هاندا: عليك وضع القفازات.
علي: أتعلمين؟ لا أعرف لماذا؟ لكنها تذكرني بالسوشي. سوشي حلوة! سأبدأ من اليمين.
هاندا: انتبه لأصابعك.
علي: نعم! باسم الله.
هاندا: ليس الأمر بهذه السهولة، عليك أن تضع السكر على السكين.
علي: يمكنني أن أعيش هنا، قلت لك إذا أردت أن توظفيني، سأعطيك سيرتي المهنية.
هاندا: هذه رقيقة جدًا.
علي: رقيقة جدًا؟! وهل تلعبون بها أيضًا؟
هاندا: مثل معجون اللعاب.
علي: عليَّ أن أجرب هذه القطعة؟ هل يمكنني ذلك؟
هاندا: طبعًا!
علي: شكرًا، رائعة فعلًا. ما الحلوى الأكثر رواجًا؟
هاندا: الممزوجة بالجوز.
علي: والأكثر مبيعا؟
هاندا: الفستق.
علي: شكرًا هاندا!
هاندا: أجل! إلى قطر!

لا شك أن هذا الحوار القصير والخاص، يختزل سر جاذبية هذه المدينة المترامية الأطراف، فهي ممتدة على قارتين الآسيوية والأوروبية، مساحتها 1.830.920 كيلومتر مربّع، ويقطنها ملايين الناس، تتوفر على العديد من الأماكن الخلابة والرائعة، كقصر يلدز القصر السلطاني المميز، وأمامه حديقة كبيرة مميزة تحمل نفس الاسم، وتحوي العديد من الأشجار والنباتات والأزهار، ويوجد في الحديقة مطعم لخدمة الزوار، وهناك المسجد الأزرق الذي تم بناؤه في القرن السابع عشر، ولا يزال صامدًا إلى يومنا هذا، ثم كنيسة شورا المبنية في العهد القسطنطيني، وحديقة أيميرجان بمناظرها الخلابة وتتوفر على مجموعة مميزة من المطاعم، والبازار الكبير الذي يتوفر على أزيد من خمسة آلاف محل تجاري متخصص في بيع المنتجات والتحف كافة، والألبسة والأطعمة، إضافة إلى العديد من المعالم الأخرى التي تزخر بها المدينة، تشهد على عراقتها وتراثها، وعظمة رجالاتها.

الغريب في هذا المكان هو أنه رغم صغر مساحته إلا أنك تحس بمدى شساعته، وتأتي هذه العظمة من القيمة التاريخية والدلالات والرموز المرتبطة به. لم اتخيل فخامة البازار الكبير فهو متاهة كبرى لا حدود لها، فضاء تجاري ضخم ومكان ينبض بالحياة، والمعاني. المتجوِّل فيه يأخذ من بستان وردة، مثال حي للتلاقي الثقافي بين الشعوب.