
مدينة فوق الموج، يسكنها نهر هو الأول في الصين، والثالث في العالم يقسمها إلى نصفين، الشرقي يحتفي بالمستقبل والغربي يذكر بماضي الاستعمار الذي يظل ينحسر أمام مفهوم الوطن.
وجه مدينة تتشرب الثقافات وتعيد إنتاجها، النسخة الصينية من نيويورك التي أسستها أحلام المغامرين، في شنغهاي تتجلى الثنائية، مبنى البلدية يقابله المتحف، الحاضر والتاريخ الشرقية والغربية، المال والثقافة، الموسيقى والعلم، هذا هو وجه الصين.
كنت واقفًا قرب الكورنيش أتأمل زرقة البحر الذي يعكس أشعة الشمس، تتراءى لي جزيرة يحتضنها الموج، بل هي مدينة تظهر وكأنها “مدينة فوق البحر”، أو بلغة أهل البلد “شنغهاي”، أكبر مدينة هنا في الصين من حيث عدد السكان الذي يبلغ حوالي 24 مليون نسمة، تعتبر عاصمة عالمية كبرى بالرغم من مساحتها التي لا تتجاوز 6340 كيلومتر مربع، وأحد أهم المراكز الاقتصادية والمالية والتجارية والثقافية هنا في جنوب شرق اَسيا، وتمتلك أول منطقة للتجارة الحرة في البر الرئيسي الصيني.
عندما رأيت تلك المباني الضخمة، ذات أشكال هندسية خلابة، أعطتني انطباعًا غريبًا وكأنني في الغرب، أو في مكان ما في بريطانيا، ولكن هذه المباني الجميلة موجودة في شنغهاي الصين.
قرب هذه المباني يستقر نهر “بونغ فو”، نهر جعل من “شنغهاي” مدينة تجارية عالمية عبر التاريخ، هو آخر رابط أساسي من نهر “اليانغ تي”، يبلغ طوله حوالي 6300 كيلو متر وهو أطول ممر مائي في الصين، وثالث أطول ممر مائي في العالم، يبلغ عرضه أحيانًا إلى 400 متر، ويتسع لمركبات كبيرة وسفن تجارية عملاقة. هذا النهر الذي يمتد من أعماق الأراضي الصينية، ويمر على أهم موانئها المتعددة، ويصلها إلى بوابة التجارة البحرية الصينية في شنغهاي، ومن ثَمَّ إلى العالم.
يفصل نهر “البونغ فو” مدينة “شنغهاي” إلى شطرين؛ القسم الشرقي ويسمى “بودانغ” نرى فيه ناطحات السحاب العملاقة، وتشعر كأنك تعيش في مدينة المستقبل، وأما القسم الغربي فيسمى “بوتشي”، ونرى المدينة تحتفظ بالعديد من المباني ذات الطابع الأوروبي المتميز، ويرجع عهدها إلى المرحلة الاستعمارية.
أسهم الاحتلال البريطاني في القرن 19 في انفتاح الصين على العالم الخارجي، نشأ بعد ذلك أحد أهم الأحياء التجارية والمالية في كل آسيا، ومنذ ذلك الوقت بدأت تكثر العديد من المباني الجميلة حاملة الطابع الاستعماري وتشهد على تلك المرحلة.
أثارني التنوع في الصين، كل مدينة من مدنها لها شخصية فريدة ومميزة انطلاقا من شنغهاي الفريدة، مرورا بـــ “بيجين” العاصمة”، و”هانغزو” الساحرة، جمال وتنوع يجعل الحليم حيران، فكل مدينة لها طابعها المميز، فالصين عبارة عن كوكب بأكمله.
دخلت إحدى الصالات التي فيها مخطط مدينة شنغهاي، وفيه مجسمات للمباني العملاقة، مثل برج التلفزيون العملاق، أو برج اللؤلؤ، المطل على نهر شنغهاي الذي أعطى روحا لهذه المدينة المتكاملة، كل هذا تصميم صيني خالص، لكن الصين بانفتاحها على العالم واستشارة كثير من الخبراء الأجانب لإنشاء هذه المدينة المميزة.
رغم اتساع الصين إلا أنها تصر على معانقة السحاب، يوجد فيها أكثر من 20 مدينة فيها مباني يصل ارتفاعها إلى أكثر من 200 متر، مثل أطول برج في الصين والموجود في شنغهاي وفي الصين 47 برجًا مصنفًا ضمن أعلى الأبراج في العالم. بالإضافة إلى التصاميم الأوربية، هناك مباني في شنغهاي أنشئت بتصميم اليابانيين، أحد الأبراج من تصميمهم جعلوا في أعلى البرج زجاجًا يعكس الشمس، وكان شعار اليابانيين هو الشمس الساطعة، وصمموها بهذه الطريقة ربما لأنهم ما زالوا يحملون رواسب الخلافات التاريخية القديمة بين الصين واليابان والتي دامت سنوات، لذلك لما علم عمدة شنغهاي أمر فورًا بتغيير التصميم بدافع الخالف التاريخي بين الصين واليابان، واليوم الصين تزدهر بشكل كبير وتفتخر بعمرانها الشاهق.
ساحة الشعب هي قلب مدينة شنغهاي، بمثابة نقطة محورية لجميع الطرق السريعة المؤدية إلى المدينة، بشمال الساحة يوجد المبنى الرئيسي للمدينة مركز بلدية شنغهاي، أما جنوبها فيوجد “متحف شنغهاي”، وبين الشمال والجنوب هناك أشكال هندسية معمارية فريدة، كنت واقفًا وسط حديقة في المدينة، تتراءى لي أشكال هندسية تحيط بنا، إنها مباني ضخمة وفريدة تحيط بهذا المركز المتميز. وأنا أتجول في “شنغهاي”، خطر ببالي انطباع أنها مدينة التنوع، ومدينة الثنائيات المتعددة، هي مدينة شرقية بأصالة أحيائها ومبانيها التاريخية العتيقة، وهي المدينة الغربية الأوربية بمناطق الامتياز المختلفة.
عاصمة المال والاقتصاد والذكاء الاصطناعي، في الوقت نفسه عاصمة الثقافة والموسيقى والفن، ثنائيات قلما تجتمع في مدينة، لكنها بكل تأكيد مجتمعة بكل انسجام في شنغهاي؛ فأينما اتجهت تجد الثنائية التي تأسست عليها الحياة، لا مكان فيه لإلغاء الآخر.