قونيا.. عاصمة السلاجقة
Ali Bin Towar Network
تأثرت مدينة قونيا بالفكر الصوفي الفلسفي.

تعد تركيا من أهم الواجهات السياحية في العالم؛ فالغنى الحضاري والتاريخي العمراني والمناخ والطبيعة الخلابة والثقافات المتنوعة، شكلَّت مُجتمعةً مقومات أساسية في تطوير القطاع السياحي؛ ففي سنة 2014، بلغ عدد السياح أكثر من 40 مليون سائح، رقم مذهل عاد بالنفع الكبير على الاقتصاد والمجتمع التركيين.

يجذب هذا العددَ الهائل من السياح التنوعُ الثقافي والطبيعي والجغرافي في تركيا؛ فالمياه والبحيرات والأنهار كلها تغري السائحين من كل حدب وصوب، وتجعلهم منبهرين بجمال تركيا وغنى مكوناتها، كما يتميز الشعب التركي بأنه مضيافٌ ودودٌ، ومستعد لمساعدة السياح حتى يقضوا أجمل الأوقات في بلاده.

في السنوات الأخيرة، كان معدل النمو في مجال السياحة التركية أعلى من المتوسط العالمي، ونسبة المساهمة المباشرة من هذا المجال لعجز الحساب الجاري في عام 2017 هي 36 في المئة. ويبدو أن تركيا نجحت في إقامة نهضة كبيرة وعلى عدة مستويات، مستفيدة من الركائز الثلاث؛ الإنسان والوقت والتراب، كما يعرفها المفكر الإسلامي الشهير مالك بن النبي صاحب النظرية المهمة في شروط النهضة.

في رحلة تاريخية مميزة، توجهت إلى مدينة قونيا؛ لأستكشف تراث المدينة وحضارتها العريقة، شأنها في ذلك شأن كل المدن التركية. لم أكن لأجري جولتي في أعماق هذه المدينة وأبحر في أغوار تاريخها، دون أن أصطحب معي متخصصا في التاريخ؛ فكان الدكتور مصطفى ديمير مرافقًا في رحلتي.

البروفيسور مصطفى ديمير أستاذ مختص في تاريخ تركيا الإسلامي، وملِّم بكثير من التفاصيل المتعلقة بتاريخ قونيا ودولة السلاجقة، ومتقن للغة العربية أيضًا، ما سهَّل عملية التواصل معه بشكل كبير.

تقع مدينة قونيا في وسط جنوب منطقة الأناضول، مدينة تاريخية، عرفت أزهى عصورها مع دولة السلاجقة الذين اتخذوها عاصمة دولتهم. شهدت مدينة قونيا حروبًا وصراعات خلال تاريخها الطويل؛ فموقع المدينة الاستراتيجي جعلها محل أطماع لكثير من الدول والإمبراطوريات المتعاقبة.

راودني سؤال مهم؛ كيف دخل الإسلام تركيا؟ وبعد نقاشي الطويل والممتع مع الدكتور ديمير عرفت أنه بعد معركة ملاذكرد سنة 1071 والتي درات رحاها بين الإمبراطورية البيزنطية والسلاجقة، وانتهت بهزيمة البيزنطيين، بدأ الانحسار التدريجي للمسيحية في منطقة الأناضول في مقابل انتشار الإسلام.

وبينما أتجول مع الدكتور في مدينة قونيا، فوجئت بتمثال جحا؛ فكان من الطريف أن أعرف أنه في الثقافة التركية أيضًا يوجد شخص مشهور يدعى نصر الدين هوجا، معروف بنوادره وطرائفه، وهذا يدل على مدى الروابط التاريخية والحضارية العميقة بين العرب والأتراك.

تأثرت مدينة قونيا بالفكر الصوفي الفلسفي، ويعود ذلك للمتصوف المعروف جلال الدين الرومي، الذي استقر في مدينة قونيا؛ ليؤسس بدوره طائفة المولووية الدرويشية، ما جعل من مدينة قونيا عاصمة صوفية بامتياز. في قلب مدينة قونيا، يقع مسجد العزيزية، الذي شيِّد سنة 1676، لكن والدة السلطان عبد العزيز أعادت ترميمه بين سنتي (1872 – 1874). ما يميِّز مبنى المسجد وجود مئذنتين لكلّ واحدة منها شرفة مدعومة بأعمدة، وله قبة كبيرة وشبابيك واسعة.

ورغم بناء المسجد على الطراز العثماني الأصيل، إلا أن التأثيرات الأوروبية واضحة عليه، وهذا عائد بالأساس إلى سياق القرن 19 وما عرف به من تزايد النفوذ الأوروبي داخل المجتمع التركي العثماني.

وعلى ذكر التأثيرات الأوروبية، ناقشت الدكتور ديمير حول سبب توجه تركيا نحو الشرق الأوسط أو العالم العربي الإسلامي عمومًا منذ دخول الألفية الثالثة؛ فاكتشفت أن الأمر يتعلق بجوهر التجربة التركية، وهو إعادة الاعتبار للهوية الإسلامية والصلات والتاريخية والحضارية التي تجمع الأتراك والمسلمين، سواء كانوا عربًا أو غيرهم، مع ضرورة خلق توازن استراتيجي بين الشرق والغرب.

من تاريخ تركيا المعاصر، انتقلت مع الدكتور ديمير إلى جولة ممتعة ومفيدة في تاريخ تركيا القديم، وعرجنا على أهم الحضارات التاريخية الكبرى التي مرت من بالد الأناضول، بدءًا من العصور الحجرية الموغلة في القدم، مرورًا بحضارة الحيثيين والهلنستيين والروم والبيزنطيين والسلاجقة والعثمانيين، وأخيرًا عصر الجمهورية التركية.

ركبت دراجتي الهوائية متوجهًا إلى قرية صغيرة تقع بالقرب من مدينة قونيا، تسمى قرية سيلي، تعتبر من أهم الوجهات السياحية في المنطقة، قرية بمعمار بسيط، لكنها ذات أهمية كبيرة؛ لأنها تحتضن كهوفًا مميزة يأتي إليها الناس من كل حدب وصوب ليشاهدوا من كثب تحفًا جغرافية طبيعية خلابة.

أينما حللت وارتحلت في مدينة قونيا، أجد جغرافيا متنوعة، فعلى بعد مسافة قريبة من المدينة، توجد ثاني أكبر بحيرة عذبة في تركيا؛ بحيرة بيشهير التي تتجاوز مساحتها 656 كلم مربع، بحيرة صافية تحيط بها جبال مكسوة قممها بالثلوج البيضاء، منظر خالب يجعل الإنسان ينبهر من روعة وجمال المكان.

كانت رحلتي إلى مدينة قونيا ممتعة ومفيدة؛ فالتاريخ العريق والتنوع الطبيعي والجغرافي، جعال من المدينة ذات طابع مميز، إضافة إلى دماثة خلق أهل المدينة وما يتمتعون به من لطف وسعة صدر وتعاون مع السياح، كل هذه الأسباب حققت لي رحلة مميزة ستبقى تفاصيلها مطبوعة في ذاكرتي.