
رغم أنَّ رحلتنا شاقة ومتعبة، إلا أن مغامراتنا لا تنتهي وأيضًا لا تنسى، ضخت الأدرينالين في جسدي، ما جعلني أطلق العِنان لنفسي؛ لأستمتع بأقصى درجة من الطعام والطقس الجميل والمزارات والأشخاص الطيبين، كلّ شيءٍ في هذا البلد مختلف، وفي كلّ موقع زرته قصة أرويها، لكي أؤرخ لرحلتي، وأحفظها للتاريخ، كما فعل ابن بطوطة وابن رشيد السبتي وابن جبير وابن فضلان وغيرهم، غير أني لا أركب الجمل في تنقلاتي كما فعلوا، بل إنني أوثِّق الأحداث بطريقة مغايرة؛ فأحمل في يدي كاميرا ديجيتال لم يسمعوا بها، ولعلهم يغبطوني لهذا الصنيع، أنا علي بن طوار، والآن ننطلق إلى بلد الله.. كيرلا الخضراء.
تقع ولاية كيرلا الهندية على الساحل الجنوبي لشبه القارة الهندية، وهي الولاية الاستوائية بالهند حيث الأمطار الموسمية. يقول بعضهم إن كلمة كيرلا تعني “خير الله”، أو “بلد الله”، وهي مدينة عائمة على أرض خضراء تشتهر بالطيور الملونة، والطعام الشهي، والقنوات المائية المتشابكة مع الخلجان والبحيرات والأنهار المائية المتدفقة. تقع على المحيط الهندي وبحر العرب، وتكثر فيها الجبال الملتفة بالأشجار، وتمتاز بمناطقها الجميلة الخلابة ذات الطابع الاستوائي.
تتميز كيرلا بطبيعة خاصة تميزها، عن باقي أنحاء القارة الهندية، إطلالتها الفريدة على المحيط الهندي، وتتمتع بالعديد من القنوات المائية والغابات الاستوائية، وصل إليها المالح البرتغالي “فاسكو ديغاما” عام 1498، وأبحر إليها الهولنديون عام 1604، أما الإنكليز فاحتلوها رسميًّا سنة 1800، بالرغم من وجودهم في البلاد قبل عشرات السنين، ونالت الاستقلال في أغسطس عام 1947 .
جذبت كيرلا، على مر العصور، التُّجار والباحثين عن البهارات والعاج، قصدها الفينيقيون والرومان والصينيون والأوروبيين أيضًا، وكان للعرب الحظ الوفير في حضورهم هنا للتجارة والاستقرار. تحمل كيرلا اليوم لقب الولاية المثقفة، وأنظف مدن الهند، رغم أنها لا تزال من أفقر الولايات الهندية، وهي أول مدينة شهدت دخول التّجار العرب.
ومع إن كيرلا مدينة ساحلية، فقد لفت انتباهي غياب وجبات السمك المتنوعة على قائمة الطعام الهندي المقدم؛ فظننت أن مبعث ذلك إهمالهم الصيد، ما حدا بي للاستفسار؛ فعلمت أن الهنود يفضلون الأطباق النباتية، وأن اللحوم والأسماك ليست مرغوبة بشكل كبير، كما أنهم لا يعتبرونها وجبة يمكن أن تقدم للسواح، هذا اعتقادهم.
ولأني أحب السمك توجهت إلى مكان يشتهر بالصيد؛ فوجدت شاطئ الصيد يرجع إلى مئات السنين، وعلمت أن أول من أتى بالشباك هم صياديو الصين في القرن 14 ومنهم تعلم الهنود أساليب الصيد. ولشغفي الكبير بالسمك، قررت المشاركة في عملية صيد رفقة بعض الصيادين؛ فركبت مركب صيد، ورحب بي الصيادون، وكان أول ما استهلوا به قولهم باللغة العربية “يا الله يا كريم”؛ فرددت معهم بكل حماس “يا الله يا كريم”، وفهمت أن أجدادي العرب كانوا هنا أيضًا، وأنهم أطلقوا هذه العبارة البديعة أثناء عملية الصيد.
وجدت الشباك هنا مصنوعة من خشب الساج وأعمدة الخيزران، وتعتمد على مبدأ التوازن، كل هيكل يرتفع حوالي 10 أمتار، ومثبت على الشاطئ بجزء ظاهر لحمل الشبكات المرافقة، تنتشر بشكل كبير لتغطي مساحة حوالي عشرين مترًا، ويتكون ثقل الموازنة عادة من الحجارة، ويأخذ مساحة قطرية تصل إلى 30 سنتيمترًا، وتتباين أطوال الحبال لتسهيل عمل الشباك.
في كثير من الأحيان، تُعلَّق الأضواء الموجودة على خشب الساج فوق الشباك لجذب الأسماك، كل شبكة صيد يستخدمها أكثر من أربعة صيادين، لتحقيق التوازن المطلوب، بما يكفي لوضع المعدات في البحر، وعادة ما تبدأ عملية الصيد في الصباح، أو في وقتٍ مبكر من المساء، يُسقِطون الشبكة في الماء لمدة يسيرة، ثم يرفعونها بدقة عن طريق سحب الحبال.
لا تعبر الكلمات بصدق عن جمال هذه التجربة الممتعة، ولا تصف بدقة مشهد تلك الشباك، وهي معلقة في الهواء البحري العليل. إنها لتجربة مثيرة بالفعل أن تصيد السمك بنفسك -في بحر العرب- بأساليب مختلفة. دخلت الشباك الصينية للهند عن طريق المستكشف شينغ هي، ووجدت لنفسها مكانًا على شواطئ كوتشي في كيرلا خلال الفترة من 1350 إلى 1450.